لم يكن متاحا للجميع التعطر، كان العطر شأنا سياسيا، وكان الملوك هم الذين يستأثرون بهذا الامتياز ولم يكن للرعية من غير المواطنين حق الاستمتاع بهذا الترف الجمالي. وكان رجال الدين هم الآخرون يعطرون الكنائس ويبعثون بالروائح إلى الأعلى كرسائل إلهية، ولهذا كان سرّ خلطة العطور سرّا دينيا خالصا. ولم تكن العطور -فقط- إحدى وسائط البشر مع الله، بل كانت أيضا إحدى المركبات الجيوسياسية على مرّ التاريخ. تتحول العطور من فضاء سياسي إلى أخر ومع كل امبراطورية صاعدة تفوح روائح العطور وتعطي لها علامات التفوق. ومع طرق الحرير وطرق الملح نشأت أيضا طرق العطور.
لم يُتح تصنيع العطور وإدخال الكيمياء عليها إلا مع النصف الثاني من القرن الثامن عشر. عندها بدأت العطور تتحرّر شيئا فشيئا وأُتيح لأكثر ما يمكن من الناس إدماج العطور ضمن عاداتهم الاستهلاكية. وشهدنا دمقرطة للعطور مندرجة في سياق عام حداثي يتحرّر معه الجسد ويأخذ مكانة فضلى. لم تكن العطور بأصنافها من الشرق أو من الغرب إلا لتحكي لنا عن حركة المجتمعات وأساليب حياة الناس ومعتقداتهم. كان العطر كالذهب والملح والسكر والحرير يمنح الحضارات البشرية فرصا للتقدّم. ولكن عطور اليوم هي عطور الفرد، عطور فردانيته التي تريد أن تتميز، أن تبتكر لنفسها هوية "روائحية" وأن تصنع المسافة مع الآخر على أنها مسافة اجتماعية ذات رائحة وبالتالي ذات عنوان.
قد يكون الشبان الذين كانوا ضحية عطر قاتل قد أخطأوا العنوان. ولكن ليس هذا المهم. ما هو مهمّ هو أنهم أرادوا أن يلجوا إلى المتعة. حق الولوج إلى مُتع الدنيا الممكنة حق أساسي لا يقل قيمة ولا يقل حظوة عن الحق في العمل والحق في التعليم وفي الصحة وفي الحياة عموما. هل يلجُ الشباب إلى مُتع الدنيا بنفس الدرجة وبنفس الطريقة؟ من المؤكد أنه مثلما توجد فوارق اجتماعية كبرى توجد أيضا فوارق صغرى تبني هويات الأفراد في حياتهم اليومية وتعطي لهم معنى لوجودهم في أبسط التفاصيل. وكثيرا ما كانت هذه الفوارق الصغرى أكثر إيلاما. قد تكون مشاكل الشباب في هذه المرحلة مشاكل مرتبطة بالبطالة أساسا وهو ما يُدخلهم ضمن دائرة الهشاشة الاجتماعية ولكن مثل هؤلاء الشباب يحتاجون أيضا إلى ممارسة مُتعهم التي يرغبون فيها وهي السهر والسفر وارتياد الملاهي اليومية وتناول الخمر وممارسة الجنس والاحتفاء بالجسد وغيرها من الأشياء التي تدخل ضمن دوائر المُتع بأصنافها العديدة. لقد تحولت هذه المُتع بأصنافها إلى دائرة الاستهلاك وأصبح لها سوق مُهيكل ينظمها و لها أيضا سوق مواز لمن يريد التعامل معها لأسباب عديدة منها ما هو مادي مرتبط بالإمكانيات و منها ما هو رمزي مرتبط بالتنشئة الاجتماعية .
هؤلاء الشبان من أرياف نائية، أرياف لا تريد فقط تنمية بالمعنى الكلاسيكي للكلمة بل أرياف تريد مُتعا، تريد ان ترى الحياة وتعيشها بأشكال ومضامين أخرى وهي التي لا تراها إلا افتراضيا على الشبكات العنكبوتية وهو ما يُضاعف من قهر الحرمان. سوق عرض المُتع والترفيه في الأرياف شحيح أو يكاد يغيب تماما وهو ما يجعل الشباب هناك وهو الأكثر احتياجا لهذه السوق مستنبطا وبأشكال في الغالب منحرفة وعدمية لمُتعه ولقنوات ترفيهه. يصنع هذا الشحّ في سوق المُتع تصورات لدى شباب الأرياف النائية والفقيرة والمهمشة حول نوع آخر من الاقصاء لا يقل خطورة عن أي إقصاء آخر. ويُعاش هذا الاقصاء على أنه حرمان من الحق في الحياة في أبسط معانيها. يشترك في هذه الوضعية شباب الأحياء الحزامية التي تحيط بالمدن الكبرى أيضا، هؤلاء هم على تماس مع مغريات المدينة ومتطلباتها وهو ما يزيد في درجة الإحباط والألم. يعيش شباب الأرياف كما شباب المدن هذا الاقصاء من دوائر المتعة والترف والترفيه وهو ما يدفعهم إلى اتباع سلوكيات محفوفة بالمخاطر تكون قاتلة في أحيان كثيرة.
إنه من الخطإ اعتبار حق الشباب في الترفيه حقا ثانويا مقارنة بحقوق أخرى ومنها الحق في العمل. إن ولوج الشباب إلى فضاءات الترف و الترفيه من الرهانات الكبرى التي تفرض نفسها اليوم من بين رهانات أخرى وذلك ضمن مقاربة مندمجة في تناول المسألة الشبابية.