وقع تساؤلين أساسيين، أما التساؤل الأول فيهم الأزمة الآنية وكيفية ايقاف انعكاساتها الصحية والاقتصادية والاجتماعية، لقد قامت أغلب الدول بوضع سياسات لم نعرف مثيلها منذ الحرب العالمية الثانية لايقاف تفشي الفيروس وحماية الناس من الانعكاسات الصحية للوباء، كما قامت أغلب الدول في العالم بضبط سياسات من الحجم الثقيل من أجل حماية المؤسسات الاقتصادية والفئات الاجتماعية الهشة من الانعكاسات الاقتصادية والاجتماعية لهذه الأزمة.
إلا أنه ومع أهمية هذه الاجابات وحجم التعبئة السياسية والمؤسسات العمومية والتي ساهمت في تراجع حدة الفيروس فإن القلق والخوف لازالا قائمين لصعوبة التحكم فيه وايجاد التلاقيح الضرورية للتعافي منه، وهذا التردد والخوف سيواصل حالة الهشاشة والضعف الذي تمر به الانسانية اليوم.
أما التساؤل الثاني الذي يقض مضاجع العالم والمؤسسات العالمية والدول والمفكرين فيهُم عالم ما بعد الكورونا، والسؤال الأساسي الذي يطرح نفسه بكل حدة يهُم مستقبل العالم وهل سنكون قادرين على القيام بالتغييرات الضرورية من أجل اجابة جديدة على نمط عيشنا والاختيارات السياسية والاقتصادية التي ساهمت في هشاشة عالمنا وتراجع مناعتنا الجماعية أمام الجوائح الصحية والأزمات المناخية والاجتماعية، وبالتالي هل سنكون قادرين على الخروج مما اعتبرناه حالة عادية لعالم ما قبل الكورونا وإعادة انتاج الموروث القديم باعتبار أن النظام الحالي هو أقصى ما يمكن أن يصل له الحلم الديمقراطي، أم أننا سنكون قادرين على بناء حلم جديد وتجربة انسانية جديدة تمكننا من القطع مع «الحالة العادية» السابقة وفتح آفاق جديدة للحلم الانساني وللتجربة الديمقراطية؟
وللاجابة على هذا التساؤل نريد التوقف عند ثلاثة عناصر أساسية ومهمة، العنصر الأول يخص الأسباب العميقة والهيكلية لهذه الجائحة الصحية الخطيرة، وهنا نود التوقف علىالتطورات الفلسفية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية التي ميزت عالم ما قبل الكورونا، فمن الناحية الفلسفية والفكرية وصلنا الى أعلى مراحل القناعة بسيطرة العلم والانسان على الطبيعة وقدرتنا على تطويعها وإيجاد الحلول لتحدياتها الكبرى في وقت قياسي، وقد دفعتنا الابتكارات ونتائج البحث العلمي ودخول ميدان الجين الوراثي وامكانية القضاء على الأمراض والأوبئة من خلال التعامل وتغيير هذه المعطيات.
ساهمت هذه التطورات العلمية والنتائج البحثية في تدعيم الفكر الحداثي والحتمية التي دافعت عنها الصيغ الأكثر راديكالية لهذه التصورات والقراءات الفلسفية، وقد لعبت هذه الرؤى والتصورات السائدة على المستوى الفكري والفلسفي في اقصاء الظواهر المفاجئة والغير متوقعة (imprévu et incertain) من مجال التفكير والبحث.
ولم تتمكن كل الأزمات السابقة في عديد المجالات السياسية والاقتصادية والمناخية من فتح هذه المنظومة الفكرية المنغلقة على نفسها والمعتدة بقدرة الانسان الخارقة لتطويع كل الظواهر ومسكها، وقد أعطى هذا المنحى الفكري قوة واعتدادا وثقة خارقة للانسان ليصبح سيد العالم والذي لا يرد له طلب والذي يسبّح بحمده كل العالم. هكذا ساهمت هذه المنظومة الفكرية الحداثية الموغلة في المطلق في بناء إنسان جديد يقترب من المطلق الديني خلال القرنين الماضيين.
وقد أتت هذه الأزمة لتثبت انخرام هذه المنظومة الفكرية وعجزها على الفهم والتفكير في أهم الظواهر التي يعيشها العالم اليوم والتي تتميز بنهاية عالم الحتمية ودخولها عالم المفاجئ والمتحول من بابه الكبير.
ولم تقف اخلالات وانخرام عالم ما قبل الكورونا على الجوانب الفكرية والفلسفية بل شملت كذلك الجوانب السياسية. فقد عرف النظام الديمقراطي تراجعا كبيرا وانفصاما مهما بين النخب والمؤسسات السياسية والمواطنين، وقد انتقد أغلب المتابعين الأنظمة الانتخابية والتي ساهمت في القطيعة الكبيرة بين النخب السياسية وقواعد وهجر المواطنين للنظام السياسي.
كانت لهذه الأزمة السياسية انعكاسات كبيرة على آليات وفاعلية المؤسسات السياسية في الأنظمة الديمقراطية. فتراجع تمثيلية المؤسسات الديمقراطية جعل من الشارع والانتفاضة، مجال التغيير في عديد البلدان. وقد اغتنمت القوى الشعبوية هذه الفجوة لتساهم في فقدان مشروعية النخب ورفضها من طرف المواطنين.
كما هو الشأن للمنظومة الفكرية فقد بلغ كذلك النظام السياسي والمنظومة المؤسساتية مستوى متقدما من الانخرام أفقدهما مشروعيتهما وفاعليتهما.
أما المستوى الثالث لأزمة نظام ما قبل الكورونا فتخص الجانب الاقتصادي وظغيان الجانب الربحي مع انتصار النيوليبرالية في بداية تسعينات القرن الماضي وتراجع كل التوازنات الأخرى وبصفة خاصة التوازنات الاجتماعية.
وستتجسد هيمنة منطق الربح وفي بعض الأحيان في تعبيراتها الجشعة في صعود المغامرة مع الرأسمال المالي والتي كانت وراء تواتر أزمات النظام العالمي، وكانت أزمة 2008 الأخطر في تاريخه وكادت تفضي الى سقوطه وانهياره.
وقد كانت لهذه الهيمنة نتائج كارثية على عديد المستويات لعل أهمها المناخ حيث ضربت هذه الرؤيا عرض الحائط بالطبيعة وساهمت مساهمة كبيرة في تدهور الوضع المناخي وتصاعد الانحباس الحراري.
وقد شمل كذلك هذا التدهور الجانب الاجتماعي مع تراجع الدور الاجتماعي للدولة في عديد القطاعات الاستراتيجية ومن ضمنها قطاعا الصحة والتعليم.
لم تكن هذه الجائحة مسألة صحية ووبائية فقط. بل جاءت كنتيجة لانخرام وتأزم منظومة فكرية وسياسية واقتصادية واجتماعية، وهذه الأزمة العامة دفعت بالعديد الى المطالبة بالخروج من الحالة العادية التي سادت قبل الأزمة لبناء حالة جديدة وتجربة انسانية مختلفة.
يتبع