الرسالة المفتوحة الثانية إلى السيد رئيس الحكومة

أمّا بعد، فقد بلغني أنّك أصدرتَ أمراً يقضي بفرض الحجر والحظر على الشيوخ والعجائز والمُسنّين وأصحاب الإعاقة، إلى أجل غير مُسمّى.

فأعجبني هذا وأردتُ أنْ أشدّ على يديْك وأشجّعك. فلا تتراجع في هذا القرار الصائب، ولا تفعل مثل ما فعلتَ مع النساء. فالنساء طويلات اللسان، لهنّ جمعيات قويّة شرسة، يستطعن متى شئن تجنيد قوى المجتمع المدني والإعلام والصحافة. وقد وقفتَ على ذلك بنفسك. فبعد أنْ ألزمتَهنّ بالاعتكاف في خدورهنّ وخدمة بُعولتهنّ، تراجعتَ ومكّنتَهنّ من الخروج، سافرات إنْ شئنَ، أسوة بالرئيس الأسبق. أمّا الشيوخ والعجائز والمُسنّون وأصحاب الإعاقة ففئات ضعيفة هشّة، لا صوتَ لها، ويُمكنك أنْ تُضيف إليها الأقلّيات الأخرى مثل الأمازيغ والسُّمر والخُضر والعبيد الأفارقة، وهلمّ جرّا. ولا حَرَجَ في ذلك فهي كلّها فئات مهمّشة، ولا يهتمّ بها المجتمع المدني ولا منظّمات حقوق الإنسان، إلاّ قليلاً، لأنّ التمييز حسب الأعمار والإعاقة واللون واللغة لا يدخل في باب الكبائر التي يجب التنديد بها ولا يُعاقب عليها القانون، خاصّة وأن الناس منصرفون إلى حاجاتهم في الشهر المعظّم ومقبلون على العيد. فاثبتْ على رأيك ولا تمكّن هذه الفئات من الخروج وحرّية التنقّل، إذ لا حقّ لها في الحجر الموجّه، وإثمها أكبر من نفعها، كما تعلم.
وتعميماً للفائدة ومُساندة لمجهود الحكومة، أرفع إليك تقريراً حول بعض التجاوزات التي رصدناها بشأن الحجر والحظر في هذه الفئات، وفيه تبليغ على الجناة حتى لا يُفسدوا عليك الأمر. أمّا التجاوز الأوّل فخاصّ بفئة المسنّين، وقد صدر عن رئيس الحزب الحاكم بأمر الله، ورئيس مجلس نواب الشعب الموقّر. فالمعنيّ بالأمر تجاوز الحجر والحظر وخرج حيث اجتمع بالنواب، واستقبل السفراء، وتحدّث إلى وزرائك من ورائك، وزاره الصحابة في بيته، وعقد مجلساً للشورى، وتردّد على القصر للإفطار مع الرئيس الأعظم.

ولم يتفطّن إلى ذلك العسسُ والشرطة لأنّه كان يخرج مُتنكّراً فيضع على وجهه كِمامة بيضاء، أو لثاماً أزرق بلون الحزب، أو نقاباً أحياناً. لذلك لم تتفطّنوا إليه.
وأنا إذْ أبلّغُ عليه فلأنّي أعرف أنّك اتّخذتَ القرار الخاص بالمسنّين بسببه هو وحده، فقد ضيّق عليك الخناق فأردتَ أنْ تتخلّص منه بالحجر والحظر، فيخلو لك الجوّ وتُصدر الأوامر كما تُحبّ وتشتهي. وأنا أعرف أيضاً أنّك عمّمتَ على جميع فئات المسنّين للتّقية حتى لا يُكتشف أمرك، وعملاً بأنّ ما أضرّ قليله فكثيره حرام. ولكن اسمح بهذه الملاحظة: كان بإمكانك الرفع من الحدّ الأدنى في السنّ إلى ثمانين أو تسعين سنة، فالرجل، أطال الله عمره، كالأنبياء والأئمّة والمفتين يُعمّرون ألف سنة إلاّ خمسين، مثل نوح عليه السلام. ولو رفّعتَ من الحدّ الأدنى لَما أدرجتني في هذه الفئة ظُلماً، ولَوفّرتَ عليك هذه الرسالة. ولكن تلك قصّة أخرى سيأتي البيان فيها من بعدُ، فأعود إلى التبليغ عن الجناة.
أمّا التجاوز الثاني فيهمّ أصحاب الإعاقة، وقد اقترفته السيدة الناطقة الرسمية باسم الحكومة. وأنا أكنُّ لها الاحترام والتقدير، ولكن تَبيّن لي في هذه الأيام الأخيرة، أنّها تشكو خللا أو إرهاقاً أو تُعاني من ضغط الإخوان، أو تِتْمَنيكْ علينا، وهذا يدخل في باب الإعاقات.

فهي بعد أنْ كشفت لنا أنّ اتخاذ قرار اعتكاف النساء في البيوت راجعٌ إلى ما طالبتها به النساء، عادت لتقول إنّ الأمر كان زلّة وخطأ. ثمّ عادت لتقول: إنّ الأمر كان تأويلاً خاطئاً من التكنوكرات المكلّفين بتحرير القرارات، وإنّها لم تعلم بذلك قبل صدور القرار. وهذا يعني أنّك أمضيتَ على قرار لم تقرأه هي، ولم يقرأه غيرها من الوزراء والمستشارين، ولم تقرأه أنتَ بطبيعة الحال. وهذا فيه أيضاً طعن صارخ في المكلّفين بالتحرير وهم دون شك من رجال القانون والمختصّين. ربّ عذر أقبح من ذنب. قد يعود ما صدر عن الناطقة الرسمية من هذيان إلى إرهاقك المفرط لها، وقد وضعتَ على كاهلها حِملَ بَعير، فكلّفتها بالنساء والأسرة والأطفال والمسنّين وأضفتَ إليها النُّطق باسم الحكومة. وهذا كثير. والله لا يُحمّل نفساً إلاّ وسعها. فارحمها أرجوك. وسرّحها لتلتزم بالحجر والحظر بسبب هذه الإعاقات الظاهرة.

وقد نبّهتُك إلى هذه الأمور لوجه الله، ولا أريد جزاءً ولا شُكراً. فلا تُعطني جهازاً من أجهزة الهاتف الذكيّة المائة، ولا سيّارة من السيارات المائة والعشر، التي اقتنتها حكومتك بفضل ما استجديْتَ منّا باسم الكورونا. أمّا إذا كنتَ تُصرّ على مجازاتي فأرسل إليّ ترخيصاً لأنتقل بين تونس ومسقط رأسي، لسببيْن. أمّا السبب الأوّل فحتى لا يُقال فيّ إنّي عجوز لا أصلح للخدمة، وقد حَشرتني زوراً في باب المسنّين. فماذا عساني أقول لصاحبتي وقد أخفيتُ عنها عمري، ففضحتَ لديها سرّي إذ لم ترني أخرج إليها خلال الحجر الموجّه؟

أمّا السبب الثاني، فلحماية ممتلكاتي. فأنا لي شويهاتٌ أخاف عليها الذئب، وبقرة حلوب وعجل، وفرس وأتان، وأربعة كلاب أحدها كلب عربي، ولكن لا تَخفْ منه إذا زُرتَني، فهو ليس غدّاراً كالكلاب العربي. وقد أهمل الراعي رزقي، وأهمل زرعي، فاستوجب الأمر انتقالي للرعاية وتوفير العلف والمرعى. أعرف أنّي لم أصرّح بهذه الممتلكات لدى القباضة، ولكن والله، يا سيّدي الرئيس، إنّها هوايش بكمة، فلا ذنبَ لها، ولا قيمة تُذكر. يشهد على ذلك العمدة الذي لا أعرفه، ورئيس البلدية الذي يتخفّى، والمعتمد الذي وصلتك بشأنه شكايات. وإنّي أعدك أنّي سأذبح العجل لسيدي معاوية الشارف، وأجعله تقرّباً منك إليه حتى يرفع عنك هذه الغمّة. ثمّ إنّ ممتلكاتي لا تساوي شيئاً أمام ما يملكه جاري المسؤول في الحكومة وله معمل نسيج ومطعم من طراز عال وحقل وألف بڤاري، وامرأته حمّالة الذهب من تركيا والفساتين من أوروبا، تبيعها في بيتها علناً، وتبيعها علناً أيضاً في الإدارة التي تعمل بها هي وابنتها وصهرها بفضل زوجها المحروس الغالي.

وفي انتظار أنْ تُوافيني بالترخيص مباشرة، نظراً إلى أنّك لم تجعل منصّة الكترونية للتراخيص في مثل هذه الأغراض الخاصّة، أعدك أنّي سألازم بيتي، ولن أشارك في اعتصام الرحيل الذي تدعو إليه بعض الفئات الضالّة، ولن أحرّض عليك الصحافة والإعلام. فقط، ألفت انتباهك إلى أنّه إذا ساء وضع كلابي فلن أتحمّل ذلك منك.
ولك سديد النظر وفائق الاحترام ودمتم ذخراً للوطن.

بقلم: وحيد السعفي

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115