برج بابل: عن صبايا البلد وعن نظم الفوارق الصغيرة

يستعدّ جزء من التونسيين إلى استعادة أيامهم بين الشوارع والإدارات والمصانع، في السيارات والحافلات والجامعات وما شابهها.

سيعود جزء من المواطنين إلى تلمس المدينة من جديد في لحظة اكتشاف وجودية. وسنمعن النظر في الأماكن وفي المواقع وفي المحلات وكأننا نراها لأول مرّة. غياب المدينة أصعب غياب، هكذا يرسم الإنسان علاقته بالمدينة بالرغم من وقع إكراهاتها عليه. إكراهات الازدحام وصعوبة تنقل العمومي والتحرش وغلاء الأسعار وواجهات المحلات الفخمة وسوء سلوك الناس أو البعض منهم، وإهانات البوليس، وتناول الأطعمة بسرعة، والإفلات من الدوام الإداري، وحرج طالبي المساعدة، والساعات الضائعة بين المقاهي، وبالرغم من كل هذا تبقى المدينة قدرنا الجميل ندخلها ولو بتصاريح مكتوبة.

وفي الأثناء بدأ التحضير للعادات القديمة، عادات مشاكسة الصبايا في الفضاء العام. « الزين خرج بالسرقة وإلا عندو ورقة» هي بدايات المشاكسة المازحة ومن الأكيد ستتلوها أخرى لإبداء الرغبة في الرجوع إلى ما تعوّد عليه الناس قبل وصول الجائحة. هذه هي المدن عندما تستعيد ألقها وتعود إلى مباهجها. وبالرغم من أنها مزحة إلا أنها تخفي وراءها إحدى أهم الفوارق وهي أن تكون امرأة في مجال تغلب عليه الذكورية في الممارسات وفي التصورات. لا تزال المرأة غير حرّة في الخروج وفي ارتياد الفضاء العام ولهذا فإن خروجها غير شرعي اجتماعيا بما أنه يتطلب موافقة عائلية وهو غير شرعي قانونيا لأنه يتطلب ترخيصا من الدولة. فهي بهذه الطريقة محاصرة من الطرفين. فوراء كل مزحة جانب كبير من الحقيقة.
الحقيقة أن النساء هن الأكثر ضررا من الحجر الصحي ومن تداعيات الكوفيد، فقد شهد العالم نزوعا غير مسبوق للعنف الموجه ضدّ النساء. وصعدت الأرقام في كل البلدان تقريبا إلى مستويات غير مسبوقة مما دفع منظمات عالمية إلى إدراك خطورة الحالة وإعلان حيرتها من توسع الظاهرة. ويُعاد التساؤل حول مكانة المرأة وهشاشة وضعها عند الأزمات. ويُضاف إلى ذلك أن النساء يُمثّلن أيضا قوى عاملة في القطاع الشكلي وخصوصا في القطاع اللاشكلي ففقدن بذلك مورد الرزق الذي يحمي إلى حدّ ما جزءا من استقلاليتهن. عنف اجتماعي يتآلف مع عنف اقتصادي، يجعلان من النساء في العالم إحدى أهمّ ركائز أنظمة عدم المساواة. وهو ما يعطينا زاوية أخرى للنظر إلى الفوارق الاجتماعية وإلى تصورات الناس لعيشهم في

وضع غير متساو مع غيرهم المجاور في التنشئة الاجتماعية وفي الانتماء إلى منظومة واحدة مثل المنظومة الدراسية. تبدو زاوية النظر هذه منشغلة بالأفراد وبمركزتيهم حول ذواتهم أكثر من التفاتهم إلى التجربة الجماعية في التصرف مع هذه الفوارق.

إشترك في النسخة الرقمية للمغرب

اشترك في النسخة الرقمية للمغرب ابتداء من 25 د

لقد دخلنا منذ ثلاث عشريات في نظام جديد لعدم المساواة الاجتماعية إذ لم يعد هذا النظام مقتصرا فقط على الفوارق الكبرى التي قادت المقولات التفسيرية للعلوم الإنسانية والاجتماعية طيلة القرن العشرين بأكمله. تلك المقولات التي تبحث أساسا فيما يمكن أن يعكّر اشتغال المجتمع ويُبطل وظائفه الأساسية. وكانت مقولة عدم المساواة الاجتماعية مرتكزة على التفاوت الاجتماعي بين الطبقات الاجتماعية، بين الأكثر ثراء والأكثر فقرا، بين المدن الغنية والأرياف الفقيرة، بين دول الشمال ودول الجنوب وبين أشكال التبادل غير المتكافئ وبين المركز والأطراف في النظام الاقتصادي الرأسمالي. كانت كل هذه المقولات مُسيطرة على المشهد التحليلي خلال القرن الماضي فأنتجت أحزابا سياسية وتنظيمات نقابية ومجموعات إيديولوجية وحركات اجتماعية لا ترى إلا الفوارق الكبرى مؤشرا على خلل في الوظائف المجتمعية. ولكن مع صعود الفردانيات وتمكنها من الفضاءات العامة وحضورها كفعل في حياة الناس وكمرجعية يستعملونها في تأويل ما يدور حولها، عندها أنزاح نظام قياس عدم المساواة والتصورات التي تحيط به. لم يعد الناس يفكرون فحسب من منطلق جمعوي، بل أصبحوا في حالة اكتشاف لذواتهم التي يمكن أن تصنع مسافة مع الآخرين. هنا تصبح الفوارق التي ينتبه لها الأفراد ويديرون بها حياتهم اليومية غير تلك الفوارق الكبرى بالضرورة.

تدخل المقارنات الصغرى بين الأفراد وبين المجموعات حيّز الحياة اليومية، في العائلة وفي المدرسة وفي الشغل وفي المؤسسات الاستشفائية وفي النقل وفي الولوج إلى أماكن الترفيه. وهذه المقارنات التي تُعاش كشكل من اللامساواة ويتمثلونها في معيشهم اليومي، هي مقارنات تفصل بين أفراد من نفس الانتماء الاجتماعي. الإحساس بعدم المساواة والإحساس بوجود فوارق ينبع بين تجربتين فرديتين متشابهتين الأولى تمكنت من أنجاز نجاح معين كنجاح الهجرة مثلا والأخرى فشلت في ذلك بوضوح. خلفيات الشعور بعدم المساواة يمكن أن تكون أيضا بين مكانة المرأة ومكانة الرجل في مجتمع ما، بين ذوي الاحتياجات الخصوصية وغيرهم، بين شاب يجد سهولة في الولوج لأماكن الترفيه والآخر محروم منها والأمثلة على ذلك عديدة. هنا تظهر بوضوح حالات السخط والغضب عند الأفراد لأنهم يتوقعون أن لهم الامكانية والأحقية ليكونوا مثل غيرهم أو أفضل الشيء الذي يُعطي ما سماه «دي توكفيل» بالإحباط النسبي.

من المهم تغيير زاوية النظر للفوارق الاجتماعية ولمسألة عدم المساواة و النظر إليها من خلال تجارب الأفراد، قد تعطي هذه القراءة نظرة أخرى و مغايرة لما هو جمعوي و لهذا لا يمكننا إغفال أننا في صنف جديد من المجتمعات هو مجتمعات الأفراد.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115