برج بابل: عن الفردانية النرجسية التي تُواجه مصيرها

لم تكن جائحة الكورونا إلا لتضع الفردانية النرجسية أمام مصيرها. فالفردانية التي ترافق أنظمة العولمة الأن ليست في كل الأحوال

تلك الفردانية التي وضعتها الأنوار شرطا أساسيا من شروطها. وتلك الفردانية كان موكولا إليها بناء تصور جديد ومبتكر للعالم والفعل فيه. كان موكولا لهذه الفردانية أن تنجز المشروع الديموقراطي، وكان موكولا إليها بناء نظام تعاقد اجتماعي جديد، وكان عليها أن تنسجم مع جسم اجتماعي يحركه تضامن عضوي غير تقليدي. وكان مناطا بهذه الفردانية أن تزيح النظرة الدينية للعالم وتنخرط في نظرة عقلانية لعالم يقوده التصنيع وتقوده المدن الكبرى. هذا ما يسمى عند الجميع بالحداثة والتي انتقلت من جغرافيا إلى أخرى عبر العالم ومن ثقافة إلى أخرى فأحدثت ما يمكن إحداثه فيها وفق السياقات بتنوعاتها العديدة، ولهذا من الأجدر دوما الحديث عن الحداثات وليس عن حداثة بعينها. 

ولكن فردانية العولمة هي فردانية من طراز أخر. وهناك من سماها بالثورة أو بالموجة الفردانية الثانية. ولكنها في كل الأحوال فردانية نرجسية عابرة مثلها مثل السلع لكل الفضاءات. ليس لها الصلابة التي عند فردانية الحداثة الأولى، هي بالأحرى مهمومة بذاتها، لا مبالية بالشأن العام ولا تعترف بالمؤسسات الاجتماعية، مرنة في تعاملها مع كل شيء، قادرة على التلون مع كل الوضعيات المتشابهة وغير المتشابهة. تستجيب وبشكل لا إرادي لأنظمة التفاهة وتنخرط فيها دون هوادة. وهي فردانية تتعامل مع الديموقراطية ليست على أنها مشروع للتغيير أو فرصة لإحداث مزيد من تكافؤ الفرص بين الناس وتحقيق العدالة الاجتماعية. بل تتعامل هذه الفردانية النرجسية مع الديموقراطية كفرصة يجب اقتناصها للتمركز أكثر حول الذات لا غير. هي أيضا فردانية لا ترى في المشكلات الاجتماعية التي تواجهها سوى شكل من أشكال الإخفاق الشخصي، و بالتالي لا يكون الخلاص منها سوى بشكل فردي.


طرحت أزمة الكزروما أسئلة عديدة، أو أنها كانت فرصة للبحث فيما يسميه الكثيرون بعصر الفراغ وهو عصر ما بعد الحداثة. فراغ المعنى بعد أن أصابت الكورونا العالم في نرجسيته بل أنها سببت له جرحا نازفا جعلته ينظر إلى ما حوله غير مُصدق أن فيروسا يمكن أن يحبس لوحده انفاس هذا العالم وأن يغير في أقل من شهرين تقريبا كل النظم الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، و أن يعيد ترتيب الأوراق من جديد. فمن كان يصدق للحظة واحدة أن تغلق جل مطارات العالم؟ ومن كان يفكر مرّة أن ينزل ثمن برميل نفط إلى أقل من ثمن سلة خُضار؟


أشياء عديدة تغيرت في زمن قياسي وهي مقدمات غير مؤكدة لتغييرات شاملة في المستقبل. وقد تأخذ هذه التغييرات وقتا يقصر أو يطول ولكن هذا لا يمنع من طرح الأسئلة والتفكير في المستقبل. والتفكير في المستقبل هو شيء يكاد يكون جديدا، فعصر ما بعد الحداثة هو بالأساس عصر مقولة الآن وهنا. وهي مقولة مصنوعة على مقاس الفرد النرجسي وليس على مقاس الفرد الحداثي. وقد أتت جائحة الكورونا لتعيد هذا الفرد إلى عالم رجع فيه إلى العلاقات الأسرية حتى ولو كان مُجبرا على ذلك وأرجعته إلى التعامل مع الطبيعة بكثير من المودّة حتى وإن كان ابتعاده عليها قسريا. وأقنعته أن الاستهلاك المفرط والمرضي يمكن أن يتوقف ولو لمدة.


لقد أعادت جائحة الكورونا المعنى لمهن خلنا أنها فقدت كل معانيها. وأصبح لدينا يقين أنه بالإمكان العيش بدون أخرى. إغلاق لمحال تجارية ولأنشطة تجارية نحن في غنى عنها الآن. وتغيرت الحدود بين ما هو لائق وما هو غير لائق بين المهن مع ما يعنيه من تعير في خارطة معنى المهن والاعتراف الاجتماعي بها. مهن الطب ومهن الصحة بكل تنويعاتها وجامعي القمامة والمزودون بالمؤونة، هؤلاء يتصدرون اليوم سلّم المهن لأننا في حاجة ماسة إليهم كي نعيش. المهن التي كانت في السابق مهنا بلا وجه ومهنا لا تُرى، أصبحت اليوم هي التي تعطي معنى لوجودنا في العالم. وفي سياق أخر ظهرت مهن أخرى لا جدور لها أو لنقل يمكننا العيش من دونها وهي تحتل سلّم الأجور العالية وبشكل فاحش، ولكنها وفي كل الظروف ستستعيد مكانتها ولن تغيب عن المشهد بسهولة، إنها دوما مهن في قلب السلطة السياسية والاقتصادية والمالية. ولكن الذي سيحصل ربما هو أن العلاقة بين أجور بعض المهن الحياتية والاعتراف الاجتماعي بها ستشهد إعادة نظر في اتجاه مزيد تحقيق التوازن المعقول.


من اليقينيات التي جُرحت في كبريائها أثناء أزمة الكورونا هي الفردانية التي وجدت نفسها عاجزة كليا عن إيجاد فهم للحالة وإيجاد حلول لمأزقها الكبير. دخل العالم وبدرجات مختلفة الموجة الفردانية الثانية، وهي موجة لها مقوماتها التي تنطلق من مقولة التمركز المفرط والجنوني حول الذات والذي على خلفيته يبني الأفراد أشكالا جديدة من الروابط الاجتماعي. وفي عمق هذه الروابط الاجتماعية الجديدة هناك اهتمام مبالغ فيه بالحياة اليومية، بما يحققه الفرد من إنجازات سريعة وفي الغالب تافهة و ُيصرّ على عرضها وبكل الطرق على جميع وسائل التواصل الاجتماعي. هنا يُصبح معيش هؤلاء الأفراد منوطا بما يشاهدونه يوميا وبما يتمنون تحقيقه في صراعات محمومة من المقارنات بين فوارق بسيطة وصغرى وتُحاك هذه الصراعات بدرجة عالية من النرجسية التي في غالب الأحيان تُفقد الأفراد ثقتهم بأنفسهم عندما يقتنعون أنهم غير قادرون على إنجاز ما يودّون إنجازه.
هناك من يدعو إلى إرجاع الفرد إلى الروابط الاجتماعية، أي إلى أن يكون فردا حرا ومسؤولا ولكن بمضامين اجتماعية وإنسانية وإيكولوجية. إرجاع اجتماعية الفرد واجتماعية الدولة من الشروط الأساسية لتجاوز لا فقط جائحة الكورونا بل لتجاوز الجوائح الإنسانية التي بداخلنا.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115