ما لم تَقُلْهُ هند الزّياديّ في رواية «غالية»: لَنْ نَعُودَ أبَدًا كما كُنَّا

الأمّ فارِغةُ الفُؤاد:
تقول غالية متحدّثةً عن أمّها «دادة قمرة» التي تَرَكتْهُمْ فجأةً وتزوَّجت رجلا من خارج تاكلسة وذهبت لتعيشَ معه

وراء جبل سيدي عبد الرّحمان: «ستستغربون من سرعة نسياني لها. حفرتُ عميقًا في داخلي فيما بعدُ لِأفهَمَ سببَ قِلَّةِ اِكتراثِي لِفِرَاقِها فلم أَجِدْ غيْرَ جوابٍ واحِدٍ: حُضُورُهَا وفِرَاقُهَا كانَ سِيّانِ، حتّى أنّني تفاجَأتُ من إحساسٍ خَفِيٍّ يتسلَّلُ إلى دَاخِلِي بالرّاحةِ والتّحرُّرِ مِن رَابِطٍ كانَ يُعِيقُنِي ويُعيقُ تَحرُّرِي مِن حانوت جاكوب والعائلة التي تسكُنُهُ» (ص 126). لم تكُنْ دادة قمرة أُمًّا ككلِّ الأمّهات، بل كانت أشبَهَ بالأُمّ السّلحفاة التي تَضَعُ بَيْضَها في حُفرةٍ، ثمّ تَحُثُّ عليهِ التّرابَ وترجِعُ مِنْ حيثُ أتت، فلا تعودُ إليهِ أبدًا ولا تعرِفُ شيْئًا عن مَصِيرِهِ. يقولُ المثلُ الشّعبيّ التّونسيُّ: «فَكْرِنْ وإلا لا فَكْرِنْ»، أيْ أنَّ السّلحفاةَ حينَ تَدُسُّ بيضَها في التّرابِ لا يهُمّها أنْ يتحوَّلَ البيضُ إلى سلاحِفَ أو أن يبْقَى كذلك. السّلحفاة ودادة قمرة كِلاهُمَا خِلْوٌ مِنْ مَشاعِرِ الأمومة. العائلة والأبناء هي أشياءُ لا تعني لهما شيئًا. الإنجابُ هو مُجرَدُ وظيفةٍ فيزيولوجيّة تقومُ بها ثمّ تذهبُ إلى حالِ سَبِيلِهَا.

من أجلِ ذلك كانت دادة قمرة في الرّواية أُمًّا «بارِدةً» أو «فارِغَةَ الفُؤادِ» (Une mère froide) لا تكترِثُ لأبنائِهَا، ولا يَهُمُّها كثيرًا مَصِيرُهُم. لا تدافِعُ عنهم عندما يتعرَّضُونَ إلى الظُّلمِ. لقد لازَمتْ الصَّمتَ حينما رأتْ ابنَتَهَا غالية مُوثَقَةً إلى جذعِ زيتونةٍ، بعد أن عاقبتْها دادة الزينة لأمرٍ تافِهٍ. لم يَلِنْ قَلْبُهَا وهي تسمَعُ تَوسُّلاتِ ابنتِهَا يومًا كامِلا أنْ تَحُلَّ وثاقَهَا بعد أنْ أنهَكَهَا الجُوعُ وكَوَتْهَا أشِعَّةُ الشّمسِ. تذهبُ لِتنامَ باكِرًا وتترُكُ ابنتَهَا الصُّغرَى «غزيّل» غارِقَةً في بَوْلِهَا فلا تُغيِّرُ لها حَفَّاظَتَهَا قبلَ النّومِ. وهي التي فَطَمَتْهَا قبلَ أوانِهَا حتّى لا تُجْهِدَ نفسَهَا في إرضَاعِهَا.

يُميِّزُ علماءُ النّفسِ بين نَوعيْنِ مُختلِفَيْنِ مِنَ الأمّهات: الأمّ الحنونُ: وهي الأكثرُ انتشارًا في المجتمعات البشريّة، والأمُّ «البارِدة» أو «فارِغَةُ الفُؤاد»، وهي ظاهرةٌ قليلةُ الوُجُودِ. فهي دائمًا ما تكون شبهَ غائبةٍ عن أبنائِهَا، أو تتّخِذُ مَسافةً بينها وبينهم. وهي خاصّيّةٌ قد تبدو لنا غريبةً وشاذَّةً عن طبع الأمومة. لكنّها في الحقيقة هي الأمّ المسؤولة عن إنجابِ الأبطال والعُظماء والأنبياء. كذلك فعلت أُمُّ موسَى عندما وضَعَتْ ابنَها في سَلَّةٍ وألْقَتْهُ في نهرِ النّيل، ومثلها فعلتْ أُمُّ «سرجونَ الأكادِيَّ» حينَ ألقتْهُ في نهرِ دجلةَ في العراق. إنَّنا حينَ نقرَأُ سيرَ الأبطال والآلهة وأنصافَ الآلهة والأنبياء والمُحارِبينَ الاستثنائيّين في أيّ حضارةٍ من الحضارات، فإنّنا نكتشفُ أنّ آباءَهم يتنكّرونَ لهم ويَطْرُدُونَهم من ساحاتِهِمْ، أو يموتونَ قبل أن يُولَدُوا فلا يَرَوْنَهُمْ. ثمّ تُلقِي بهم أُمّهاتُهمْ بعد ذلك في الأنهار والأحراشِ والغاباتِ، أو يَرْمِينَ بهم في أحضانِ المُرْضِعاتِ مِنْ نِساءِ البَوادِي أو الذِّئابِ والظِّباء كالأخوين «رومولوس وريموس» مُؤسِّسَيْ رُوما.

يقولُ الرّوائيّ الأمريكيّ: «هنري ميلّر» في اِعترافاتِه: «إنّ الآباءَ بصفةٍ عامّةٍ يَجهَلُونَ تَنْشِئةَ أطفالِهِمْ. وإنّه لَمِنَ الأفضَلِ للطّفلِ أنْ يَتَوارَى عَنهُ أَبَواهُ، وبَعدَها، مثل أوليس، سوف يَعثُرُ على نَفسِهِ بِنَفسِهِ»(4). إنّ الآلهةَ حسبَ الاعتقادِ اليونانيِّ القديمِ، قد أنشَأتْ الكوْنَ ثمّ ذهبتْ إلى حالِ سَبيلِها، وقالت له مثلما قالتْ السّلحفاةُ لِبَيْضِهَا: «فَكرِنْ والا لا فَكْرِنْ». وهو لا يعنِي أنّها أهملتْهُ وتركَتْهُ إلى المجهول، بل هي وضَعتْ له قوانِينَهُ ونواميسَهُ التي تحكُمُ نِظَامَهُ وحركَتَهُ، ثمّ ألْقَتْ المسؤوليّةَ على عاتِقِ الإنسانِ لِكَيْ يتدَبَّرَ بنفسِهِ أمرَهُ ويَنْظُرَ فيه ويفهمَ نِظامَهُ ويَمتَنِعَ عن إفسَادِهِ. كذلك فعلتْ دادة قمرة بكلِّ ما أُوتِيَتْ مِنْ حِكمةٍ وصَمتٍ. أنجبَتْ بَناتِهَا الثلاثَ، ثمّ ترَكَتْهُنَّ، بلْ ألْقَتْ بِهِنَّ إلى غاباتِ جبل سيدي عبد الرّحمان ومَفَاوِزِهِ المجهولةِ. ثمّ اِنصرَفَتْ مع زَوْجِها الجديد إلى عالمٍ آخرَ. وبعد مدّةٍ زمنيّةٍ طويلةٍ أوكَلتْ لابنِهَا «البشير» الذي أنجبَتهُ من ذلك الزّوج مُهمَّةَ البحثِ عن أخواتِهِ مُستَعينًا بصورةٍ قديمةٍ مُهتَرِئةٍ لم يَتمكَّنْ أحدٌ منَ التّعرُّفِ إلى هُويّةِ مَنْ فيهَا.

نَتيجَةً لِكلِّ ذلك، يبدو أنّ البيضَ الذي باضَتْهُ دادة قمرة ودَسَّتْهُ في تُراب هنشير العيون ثمّ رحلتْ، لم يَذْهَبْ سُدًى. لقدْ خَرَجَتْ منه غالية لِتُعوِّضَ غيابَ الأمّ، وتُصبِحَ سُلحفاةً جديدةً مثلَ أُمِّها، قادِرَةً على تحمُّلِ المسؤوليّةِ. فهي تقولُ في الرّواية: «صِرْتُ منذ زواج قمرة ورحِيلِهَا مع زوجِهَا أحمِلُ عائِلتِي وبَيْتِي فوق ظهرِي. تحوّلتُ إلى سُلحفاةٍ بجَدِيلةٍ سَوْدَاءَ. وُجُودُ غزيّل فوق ظَهرِي مَنَعَنِي مِنْ أنْ أَرْكُضَ نحو ما أريدُ كما تعَوّدْتُ أنْ أفعلَ. صِرْتُ أكثرَ رَصَانةً في المَشيِ، وأعطانِي بُطْئِي الفُرصَةَ للتّفكيرِ في كثيرٍ من الأشياء قبل أنْ أندَفِعَ إلى فِعلِهَا كما كُنتُ أُبادِرُ سابِقًا» (ص 126).

المَطْرُودُونَ مِن الجَنّة:
لا نكادُ نعرفُ شيئًا عن شخصيّة سيدي عبد الرّحمان المكّيّ، الوليّ الذي تدورُ أحداثُ رواية غالية في فلَكِهِ، والذي يَرْقُدُ في مَغارَةٍ بأعلَى الجبلِ الذي سُمِّيَ بِاِسمِه. تاريخِيًّا لا يُمكن الحسمُ في أمرِهِ: هل هو ذاتُهُ عبد الرّحمان بن عليّ المكّيّ الذي عاش في طرابلس الغرب في القرن العاشر الهجريّ، وهو أحدُ أصحابِ سيدي عبد السلام الأسمر الفيتوري ومُريدِي طريقتِهِ الصُّوفيّة ومُؤلِّفُ كتابِ مناقبِهِ الكبير؟ أمْ هو مُجرَّدُ تشابُهٍ في الأسماء؟ يَنقُلُ لنا J- Weyland المراقب المدنيّ لقرنبالية في عشرينيّات القرن الماضي حكايَةً سَمِعَها من أهل المكان من كِبارِ الإخبارِيّين، وهي حكايةٌ أسطوريّة تُحاوِلُ التّأريخَ لِقُدُومِ سيدي عبد الرحمان إلى ذلك المكان. ومَفادُها أنّ سيدي بوعليّ المعاويّ ذهب إلى الحجّ، وبينما هو جالِسٌ في مَكّةَ، أتاهُ رَجُلٌ يَحْمِلُ قُفَّةً، فسَلَّمَها له وأوْصَاهُ بأنْ يَصعَدَ عند عودتِهِ إلى بلدِهِ إلى الجبلِ المذكور، ووصفَ له مَغارَةً في أعلاهُ، يَقِفُ أمامها ويُنادِي باسم «عبد الرّحمان المكّيّ»، فيخرُجُ له رجُلٌ فيُعطيه تلك القفّة. وكانَ الأمرُ كذلك، وتَسلَّمَ سيدي عبد الرّحمان القُفّةَ فوَجَدَ فيها كَفَنًا، ففهِمَ أنَّ الذي بعثهُ له مِن مكّةَ هو أبوهُ الذي شَعُرَ بقُرْبِ مَوْتِ ابنِهِ. أوْصَى سيدي عبد

الرحمان سيدي بوعليّ أنْ يتكفَّلَ هو بتجهيزِهِ ودَفْنِهِ في تلك المغارة. وكان له ذلك. ويُضِيفُ J- Weyland قائِلا إنّ القبرَ موجودٌ في المغارة وليسَ في الزّاوية كما يُفهَمُ مِن كلام هند الزّياديّ في الرّواية (5).

ما الذي جعلَ رَجُلا من مكَّةَ يبعثُ بابنِهِ إلى أقصى الشّمال الشّرقيّ من إفريقيّةَ في المغرب ويبعثُ له كَفَنَهُ لِيَمُوتَ في أعلى قمّةٍ من مرتفعاتِ الوطن القبليّ مُشْرِفًا على البحرِ «الأزرق الكبير» مِنْ جهاتِهِ الثّلاثِ؟ ما الذي يجعلُ الآباءَ يتحكّمون في مَصَائِرِ أبنائِهِمْ ويَدْفَعونَ بهم إلى الموت في الأمكنة التي يتخيّرُونَها وفي الأزمنةِ التي يُريدُونَهَا؟ لماذا اِختارَ هذا المكانَ بالتّحديد؟ هل اِكتشفَ هذا المتصوِّفُ أنَّ ذلكَ المكانَ هو نُقطةُ النّهاية وآخِرُ مُستَقَرٍّ لَهُ في رِحلتِهِ الصُّوفيّة للبحث عن الحقيقة؟ لماذا نُقرِّرُ الموْتَ ونَصْمُتُ إلى الأبدِ كلّما توصَّلنَا إلى رُؤية الحقيقة؟

يبدو أنّ «غالية» لم تَكُنْ تَطرَحُ على نفسِهَا هذه التّساؤلات في البداية. لقد عاشتْ طُفُولَتَهَا على وَهمٍ كبيرٍ، وهي أنّ العالمَ بالنّسبةِ إليها ينتهي عند جبل سيدي عبد الرّحمان. ولم تكُنْ تتخيّلُ ماذا يُوجَدُ وراء هذا الجبلِ: «هذا إذن ما يُوجد وراء الجبل؟ أخيرًا حصلتُ على جوابٍ لِسُؤالٍ كان دائمًا يخطُرُ بِذهني وأنا أنظر للجبلِ من الجهة الأخرى وأشعُرُ أنّه نهايةُ العالم. غيرَ أنّ زيارَتَهُ كشفتْ لي خَطَأَ معلوماتِي» (ص 97). لقد عاشَتْ غاليَة لحظةَ اِكتشافِ الحقيقةِ بكلِّ عُنفٍ واِندِفَاعٍ، فتحوَّلَتْ إلى فَرَسٍ جَمُوحٍ تنتقلُ من مكانٍ إلى مكانٍ كالمجنون، وتُقبِلُ على الأكلِ بشرَاهةٍ لم تَعهدْها من قَبلُ. شراهةٌ للأكل، وشراهةٌ للاستِماعِ إلى سرد «خالتي بشيرة». لم تكُنْ طُقوسُ زيارةِ الولِيِّ تجلبُ اِهتمامَها، فهي لم تُقبِلْ على إشعالِ الشُّموعِ بمِثلِ إقبالِهَا على الأكل والسّرد وإشباعِ نَهَمِهَا المعرِفيِّ. ولمْ تقتنِعْ بتخضيبِ يَدَيْهَا وقدَمَيْهَا بالحِنَّاء، لأنّ ذلك يسجُنُهَا ويشُلُّ حَرَكتَهَا ويمنعُهَا من تذوُّقِ مُتعةِ الحقائقِ الجديدة. لم تفهمْ كيف يُمكِنُ أن تنامَ «ماميّة» زوجة «الشّيخ يوسف» وهم في معمعانِ السّرد والتّركيز في حكايات خالتي بشيرة المُبْهِرَة. ولم تفهَمْ أيضًا صَمْتَ «الحفيظة» التي تعتني بالزّاوية، تلك المرأة

التي تحوّلتْ إلى «بَكُّوشة» من هَوْلِ الصّدمةِ التي صُدِمتْ بها بعد أن اِفتكّتْ منها السّلطة الاستعماريّة زوْجَها وابنَهَا وبعثت بهما إلى أتونِ الحرب. كان قرارُ غالية من على قمّة جبل سيدي عبد الرّحمان أنْ تذهبَ إلى المدرسة وتدرُسَ جنبا إلى جنبٍ مع «فكريّة» بنت الشّيخ يوسف.

لم تَكُنْ تعلَمُ غالية أنَّ هذه السّعادةَ الكُبرَى التي شعُرت بها في قمّة الجبلِ ستكونُ لها عواقِبُ «غالِيةٌ». لم يَخْطُرْ بِبالِهَا أنَّها حينَ أكلَتْ «كبِدَ الدّيكِ» و»عرانيسَ الذّرة» (الفريك) إنّما اِرْتكبتْ خَطِيئةَ الأكل من الشّجرةِ المُحرَّمةِ، وأنّ ثمنَ هذا الأكلِ من «شجرة المعرفة» سيكونُ باهِضًا، وهو الطّردُ الأبدِيُّ من «الجنّة». ذلك ما وقعَ فعلا بعد ذلك. فعندما بدأت غاليةُ تتعلّمُ وتذهبُ إلى المدرسة، توالَتْ عليها المَصائِبُ والرَّزَايَا من جانِبٍ. تزوَّجَتْ أُختُهَا نسريّةُ، حِضْنُهَا الدَّافِئُ الذي يُنسِيهَا بُرُودَةَ الأُمِّ وفَرَاغَ فُؤادِهَا. اِنتقلَتْ إلى مَكانٍ آخرَ، فَشَيَّعَتْهَا غالِيَةُ في ليلةِ زفافِهَا في طُقوسٍ جنائِزِيّةٍ كأنّها تُشَيِّعُهَا إلى مَثْوَاهَا الأخيرِ. ثمّ رَحَلَتْ أُمُّهَا مع زوجِهَا الجديدِ إلى مكانٍ بعيدٍ، وتركتْ لها ابنتَها الصُّغرَى «غزيّل» في أحضانِها بعد أن اِشترطَ عمُّها ألّا تأخُذَها معها. وفي ليلةٍ من اللّيالي المُمطِرةِ، وقعت حادثةُ الحرق في ظُروفٍ غامِضةٍ لا يكتشِفُهَا القارِئُ إلا في نهاية الرّواية. لقد اِحترقت «غزيّل» وحاولت زوجةُ عمِّها إخفاء الحقيقةِ، وأشاعت بين النّاسِ أنّها أحرقت الطّاحونة وهربت مع بائع البنزين. عاش النّاسُ في هنشير العيون على هذا الوهم زمنا طويلا بعد ذلك، ولم تنطِقْ دادة الزّينة بالحقيقة إلا وهي على فراش الموت.

لقد أثبتت لنا رواية «غالية» لهند الزّيادي أنَّنا جميعًا لا نعرِفُ ذَوَاتَنَا. وأنّنا حينَ نُولَدُ ونأتي إلى هذه الحياة، تُولدُ معنا أوهامُنَا وأحلامُنا، ونعتقدُ جاهِدِينَ أنّنا نعرفُ أنفُسَنَا ونعرِفُ ماذا نُرِيدُ وإلى أين نتَّجِهُ. ولا نكتشِفُ زيفَ أحلامِنَا وأوهامِنَا واِندِفاعِنَا إلا حينَ نصطدم بحقيقةِ أنفُسِنَا. عندئذٍ نَصْمُتُ إلى الأبدِ أو نُصابُ بالجُنونِ والهذيان، لأنَّ لحظةَ اكتشافِ الحقيقة تقتضِي الرُّجُوعَ إلى نقطةِ البداية، وهي لحظةٌ تراجيديّةٌ بالأساسِ، لأنّنا إذا عرفنا أنفُسَنَا واِهتَدَيْنَا إلى ذَواتِنَا فلن نَعُودَ أبَدًا كما كُنَّا. تكتشِفُ غالية حقيقةَ العالمِ فوقَ جبل سيدي عبد الرّحمان، وتُرِيدُ أنْ تُعيدَ بناءَ حياتِهَا اِنطلاقًا من الرُّؤيةِ الجديدة، لكنّها تفشلُ في ذلك. كذلك فعل رجلُ الماتريوشكا الذي كرّسَ حياتَهُ لاستقصاء الحقيقة، لكنّهُ عندما وَجَدَهَا لَفَظَتْهُ الجَرِيدةُ وخسِرَ ابنَهُ وعائلتَهُ وعادَ إلى هنشير العيون أرضِ أجدادِه لِيَصْمُتَ صَمتًا أبَدِيًّا. عندما بلَغَ سيدي عبد الرّحمان المكّي قمّةَ الجبلِ، يبدو أنّه رَأى الحقيقةَ الإلهيّةَ التي يبحثُ عنها أهلُ التَّصَوُّفِ فصمتَ أيضًا صَمتًا أبدِيًّا.
في حكايةٍ من حكاياتِ غربِ إفريقيا، يخرُجُ صَيَّادٌ إلى الغابة كعادتِهِ لِيَصْطادَ. فتوغّلَ فيها حتّى وصَلَ إلى مكانٍ لم يَعرِفْهُ من قبلُ. فجأةً سَمِعَ صَوْتًا أُنثوِيًّا عَذْبًا يُغنّي. وكانت كلماتُ الأغنية تقولُ:

«الإنسانُ هو الذي يُقحِمُ نَفْسَهُ في الأشياءِ
ليستِ الأشياءُ هي التي تُقحِمُ نفسَها فيه».
ذهب الصّيّادُ لِيَستكشِفَ صاحبةَ الصّوتِ العذب، فإذا به يجدُ سُلحفاةً مُمسِكةً بقيثارةٍ تُغنّي. فتعجّبَ من ذلك واندهشَ. وأصبحَ يذهبُ إلى ذلك المكان كلَّ يومٍ ليستمتعَ بعزفِ السّلحفاةِ وغنائِهَا. وفي يومٍ من الأيّامِ أقنَعَها بأن تذهبَ معه إلى كُوخِهِ ليُواصِلَ الاستمتاعَ بها. فسمَحتْ له بذلك على أنْ تُغنِّيَ له وحدَهُ.
وعندما حملها معه إلى كوخِه، لم يتمالكْ نفسَهُ، وأصبح يُحدِّثُ أصحابَهُ وكلَّ مَن يعترِضُهُ بأمر هذه السّلحفاة العجيبة. حتّى وصَلَ الأمرُ إلى مَسْمَعِ المَلِكِ، فاِستدعاهُ لِيَستَجْلِيَ الأمرَ. لم يُصَدِّقْ الملكُ الحكايةَ، فقالَ له الصّيّادُ: «سآتِيكَ بها لترى وتسمعَ بنفسِكَ. وإذا لم تصْدُقْ رِوايَتِي اُقتُلُونِي».
أتى الصّيّادُ بالسّلحفاة والقيثارة إلى قصر الملكِ وبَقِيَ الجميعُ ينتظرونَ ساعاتٍ أن تعزِفَ السّلحفاةُ وتُغنِّيَ فلم تَفْعَلْ. عندئذٍ أمسكُوا بالصّيّادِ وقَتَلوهُ. وبعد أنْ قُتِلَ تكلّمتْ السُّلحفاةُ. فنظرَ النّاسُ بعضُهم إلى بعضٍ وقالوا: «لقد قتلنا الرّجُلَ ظُلمًا». فأجابتْ السُّلحفاةُ قائِلةً: «لقد أوْدَى بِنَفسِهِ إلى الهلاكِ. لقد عِشْتُ حياةً هنيئةً في الغابةِ أُغنِّي أُغنِيَتِي. لم يَكُنْ قانِعًا بالمَجيءِ والاستِماعِ»(6).

الحقيقةٌ إذنْ ذاتِيَّةُ. لكلِّ إنسانٍ رُؤيتُهُ للحقيقة. عليه أن يَكتَفِيَ بها لِنَفسِهِ، ويستَمتِعَ بها وحدَهُ ويَقتَنِعَ «بالمَجِيء والاستِماعِ». كلُّ كائناتِ الأرضِ الأخرى تعيشُ وهي صامِتةٌ. يبدو أنّها كانت في ما مَضَى تتكلّمُ، فلمّا توصّلتْ إلى اليَقينِ اِستغنَتْ عن اللّغةِ إلى الأبدِ. أمّا الإنسانُ، فهو الكائنُ الوحيدُ الذي لا يُريدُ أنْ يَسْكُتَ.
من أجلِ ذلك اِختارتْ هند الزّياديّ أنْ تُسْكِتَ الإنسانَ في آخرِ رواية غالية، فاِفتكَّتْ منه مُهمَّةَ السّردِ ومَنَحتْهَا للكلب. كيف كان ذلك؟ لا بدّ من قراءة الرّواية.

-------
(1) هند الزّياديّ، غالية أو الرّجل الذي سكنَ البرج مع ماتريوشكا، تونس 2020، دار زينب للنشر، ط1.
(2) تفسير الألوسيّ ج 14، القاهرة 1353 هـ، ص 221- 222.
(3) ادوارد سعيد، التمنّع، التّجنّب، التّعرّف، تأمّلات حول البداية، دمشق 2008، دار بدايات، ص 48.
(4) هنري ميلّر، اِعترافات في الثّمانين، تونس 2006، دار التوباد، ص 14.
(5) J- Weyland Le Cap Bon: Essai historique et économique, 1926, p30-31.
(6) الزّعيم الذي أحبَّ الأحاجي: حكايات شعبية غرب إفريقيّة، وليام باركر وسيسيليا سينكلير، ترجمة الحسين خضيري، الرّياض، 1440 هـ، كتاب الفيصل (25)، ص 73 - 75.

بقلم: مزار بن حسن

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115