حديث الفرد: قريبا، ألقى وجه ربّي.. ماذا عساني أقول لربّي ؟

الكثير من أهلي انتقل إلى جوار ربّي. أمّي، منذ سنين، انتقلت إلى جوار ربّي. العديد من زملائي فارقوا الدنيا. كلّ عامّ، تأخذ المنيّة واحدا

أو اثنين أو أكثر من أهلي ومن صحبي. مع الأيّام تجري، أرى الناس من حولي يختفون شيئا فشيئا. ينتهون من الدنيا. أحيانا، أنظر. أسأل عمّن بقي حيّا. بقيّ قلّة قليلة. نفر ونفر. مات الكثير من أهلي وصحبي. أنا اليوم وحيد، أحيا. حتّى متى سأبقى وحيدا، أحيا؟ قريبا، أنا أيضا أنتهي من الدنيا. قريبا، أنا أيضا ألقى وجه ربّي...

أنا لا أحبّ أن أنتقل إلى جوار ربّي. ماذا عساني أفعل بجوار ربّي؟ لا شيء أفعل هناك. أفضّل البقاء هنا، في الأرض، مع رفاقي وصحبي. أنا أحبّ الناس والدنيا وأحبّ ما في الدنيا من نعيم وخير. دعوني أبقى هنا وسط أهلي وصحبي وهؤلاء جيران لهم ودّ وفضل وهذا بشر بهيّ، يسعى. أنا لا أحبّ فراق الحياة ولا لقاء وجه ربّي. أنا أحبّ الدنيا والناس والبحر وما كان من نعيم ولذّات أخرى. ماذا عساني أفعل بجوار ربّي؟ لا أعلم شيئا عمّا يدور بجوار ربّي. في السماء العليا، ربّما ألقى وجه أمّي. أحبّ أن أرى وجه أمّي وأشدّها من ذيلها ومن يديها. ليت أمّي تعود إليّ. أحبّ أن ألتقي بأخي سامي وأتحدّث إليه وأضحك وإياه لحظة. لفّ الموت أخي سامي وكان شابّا بهيّا...

أنا أخاف لقاء وجه ربّي والآخرة ويوم الحشر. يوم الحشر كألف حول. فيه موازين منصوبة وأجسام مهزوزة ووجوه مكفهرّة. لا أحبّ يوم الحشر. في يوم الحشر، ترى الناس فرادى وأفواجا. جاؤوا من كلّ أرض، من كلّ عصر. رؤوسهم صاغرة وعيونهم خاسئة إلى ربّها ناظرة. أنا أخشى يوم الحشر. هو يوم بلاء أزرق. من يدري، لعلّي أحشر قسرا، في عذاب أزرق. من يدري، لعلّي ألقى في نار ملتهبة. لا أدري ما سوف يطرأ في يوم الحشر. أنا أهاب الحساب وما قد يكون من تبعات منكرة. أنا لا أحبّ لقاء وجه ربّي. أنا أحبّ الدنيا. هذه التي فيها ولدت وفيها كبرت وفيها اليوم أحيا...

لا شيء عندي أفعل بجوار ربّي. دعوني في الأرض أحيا. أحيا كما حييت مع ابنيّ وزوجتي والبنيّة ومع أمّي لمّا كنت طفلا صبيّا. بجوار ربّي، ترفع الأرض. تنتهي الدنيا. لا حياة في السماء العليا ولا تدافع ولا بغضاء ولا وجد. في السماء العليا، ينسدل الأفق ويتكلّس الفؤاد ويتّصل الليل بالنهار. يرفع الباطل والحقّ وينتهي الخير والمنكر. في الآخرة، زمان مغاير وبشر ليس كالبشر وعيش لا أعرف له كنها. لا أدري كيف ستكون الحياة في السماء العليا. لا أحد بيّن ولا أحد شرح. الآخرة لغز. هي غموض تامّ وضبابيّة مفزعة.

في ما يقال، بعد الحشر، يبقى المسلم وكلّ من خفّت موازينه، الدهر كلّه، يأكل ما لذّ من ثمار وفاكهة ويشرب ما ابتغى من عسل خمر وينكح ما اشتهى من غلمان ونسوة. أمّا الكافرون ومن ثقلت موازينهم فهم في نار سعير. يبيتون على جمر يصلي وينهضون على سعير يكوي. ذاك ما قاله السلف وردّده الناس عن يوم الحشر. كذلك شاء ربّك أن تكون الآخرة وهي خير وأبقى...

في الحقيقة، أنا لا أحبّ العيش في الآخرة ولا أرى نفعا في ما فيها من نار وجنّة. في الحقيقة، أنا لا أعشق الخمر ولا نكاح الحور ولا ركوب الغلمان، نهارا وليلا. إن كنت من أهل الجنّة، ولسوف أكون من أهل الجنّة، هل أرضى أن أبقى الدهر كلّه، ممدّدا على فراش مرفوع، بين أفخاذ الغلمان وأثداء الحور، آكل فاكهة وأشرب نبيذا وعسلا؟ هل هذا عيش به أرضى؟ هل هذا جزاء تقبله نفسي؟ هل في هذا إكرام لي وعرفان لما أتيت من مكارم أخلاق ومن سيرة حسنة؟ ما كنت أبدا خمّيرا، أحتسي الخمر ولا أنتهي. ما كنت أبدا نكّاحا، أنكح الحور والغلمان طولا وعرضا. أنا لا أحبّ هذه الجنّة. كما لا أحبّ جهنّم وما فيها من نار سعير تأكل ولا تبقي. هل يرضى صاحب الخلق دسّ خلقه في نار ملتهبة؟ هل هذا صنيع خالق حكيم؟ كلّ هذا لا يقبله عقلي. هذا لا يرضاه لعباده صاحب الملك. لن تكون الآخرة دكاكين للنكاح والخمر ولا هي سراديب فيها نار سعير، تزمجر... هذه صور. هذا مجاز. الجنّة والنار مقاربة. هما خيال يجري وأسطورة تروى. في ما أرى، هذا هذيان أعراب شدّهم جوع وعطش وسكنهم حرمان وكبت...
  
أنا اليوم في السبعين من العمر. قريبا، أنتهي من الدنيا. قريبا، أنتقل إلى السماء العليا. في السماء العليا، سوف ألقى وجه ربّي. كتابي في يميني، صاغرا. أنتظر ساعة الحساب. أنتظر الحكم وما سوف يكون من جزاء مقدّر. مهما كان الجزاء وحيث سأدفع قسرا، في نعيم الجنّة أو في نار جهنّم، لن أرضى بما كان من قرار وبما جاء من حكم. كيف أرضى وفي الآخرة، هي الحياة رتيبة، مسطّحة؟ كيف أرضى وفي الآخرة ضجر قاتل وملل يضني؟ هذه ليست بعيش. هذه ليست بخاتمة يقبلها عقلي. هذه مأساة أشدّ من القتل...

أنا أهاب الآخرة وأخاف لقاء وجه ربّي. لا أعلم ما سوف عنده ألقى. أنا أحبّ البقاء هنا في الدنيا بين أهلي وصحبي. مع هؤلاء، قضّيت سنوات عمري ولي معهم صلات وعادات وذكرى. أعرف ما يضمرون وما يظهرون. أعلم ما يقولون وما يخفون. أحبّ ما يأتون من نفاق وزور، من كذب وصدق. أحبّ الخلق كلّهم وما هم فيه من نور وظلمة. أنا لا أحبّ الآخرة وما فيها من ثنائيّة مضجرة. أحبّ الحياة الدنيا وقد جاءت عشوائيّة، مضطربة. أحبّ الحياة الدنيا وما فيها من تقلّبات وصدف. كذلك، أحبّ النكاح لمّا يأتي صدفة وشرب الخمر لمّا ألتقي بصحبي دون ميعاد، في حانة شعبيّة، مكتظّة...

قريبا، ألقى وجه ربّي وأخشى لقاء وجه ربّي. أخاف أن ألتقي به وجها لوجه. أنظر فيه وينظر فيّ. يسألني عمّا أتيت من خير وشرّ. كيف سألقاه، يوم القيامة، ويلقاني؟ ماذا عساه يقول لي؟ ماذا عساني أقول له؟ لا شيء عندي أقوله. أنا لم أطلب لقاءا. أنا لا أحبّ لقاءه. هو من دعاني إليه. لا أعلم لماذا هو دعاني ولا أدري ما سوف يسأل من سؤال. ولم السؤال والجواب وكلّ صغيرة وكبيرة قد ضمّها كتابي؟ لم الحساب والميزان وهو يعلم ما في الأرض وما في السماء؟ كلّ ذرّة خير أو شرّ هي موثّقة وهذه ملائكته منشورة في الأرجاء، تراقب، تتابع. لا أرى نفعا في يوم الحشر. كلّ شيء موثّق. كلّ أمر مسجّل. كلّ شأن مكتوب في الشبكة. يوم الحشر خرافة. هو توريّة. هو إفراز خيال. لا أكثر ولا أقلّ.
  
لماذا أخاف ملاقاة ربّي؟ ماذا عساني أخشى؟ أنا لم أفعل في الدنيا حراما كثيرا ولم آت إثما مهمّا. أنا عشت عيشا بسيطا. أيّام عمري عاديّة، مسطّحة. بعض الحرام أحيانا. بعض الخروج عن الصفّ أحيانا أخرى. هذا موثّق في كتابي. تلقاه مفصّلا في «ورقاتي». في حياتي، أتيت أشياء كثيرة. لو نظرت، هي شؤون عاديّة، لا إشكال فيها ولا لغز. لا ضرر فيها للبشر ولا تفسد أرضا. كان عيشي ساذجا، تافها، غبيّا. لا تميّز فيه ولا خصوصيّة...

ها أنا أنظر في ما كان لي من عمر. في الدنيا، كنت فردا من البشر، واحدا من قطيع جمع. أتّبع دون وعي ما انتشر بين الناس من سلوك وأحمل بين أضلعي ما راج زمنها من قيم وفكر. لم أبتدع شيئا. لم أخرج عن الصفّ. عشت ضمن القطيع. سرت خلفه، في صراطه، دوما. قضّيت العمر في المتاهات. أقوم وأقعد وأسعى. ألوك العادات. أبذل الجهد لضمان لقمة عيش. ضاع عمري في لقمة العيش. قتلتني لقمة العيش... حياتي، لو نظرت، كانت صراطا. عيشي كان عاديّا. عشت العمر دون أن أحيا. قضيت السنين أمشي على ركبتيّ. أضعت العمر في كبح نفسي، في عقال عقلي. كلّ هذا يغيظني، اليوم. كلّ هذا يحزّ في نفسي. أنا آسف عمّا فات من العمر. أنا في ندم عمّا كان لي من عيش رديء، مسطّح. ليتني فرّطت في

عقلي وحملني الجنون حيث الكواكب والعرش. ليتني أعرضت عن صراطي المستقيم وأتيت انحرافا وصعلكة. ليتني خرجت عن الصفّ وألغيت ما كان بين الناس دائرا، مستبدّا. ليتني قضّيت العمر في الرحيل، في الضياع، في العربدة. ليتني أضعت البوصلة ومشيت في الأرض طليقا، دون غاية، دون شرع. آكل فاكهة وحشيشا. أشرب رضابا ورحيقا. أتلحّف العشق وأعانق الوجد. ليتني أتيت الموبقات كلّها والكبائر والصغائر أيضا. كم كنت غبيّا، تافها، ضحلا. كم كان عيشي باهتا، سخيفا. الحياة غنيمة. فما لي لم أغنم من الحياة، لذّاتها؟ الحياة مقامرة. فما لي أعرضت عن الحياة واكتفيت بما توفّر وتيسّر؟ أنا عبد عاجز، غبيّ. أنا إنسان غير قادر. مهزوم، منكود...

لمَ الخوف إذا من لقاء وجه ربّك وقد جاءت أيّامك ساذجة، مسطّحة؟ لم الخوف من يوم الحشر ولم تأت في الدنيا حراما مهمّا؟ لم الخوف يا شيحة من يوم اللقاء وقد كان عيشك خطّا سويّا؟ صحيح، أنت لا تصلّي ولا تصوم الشهر. تمشي في الأرض مرحا. تحبّ المال وتعشق النساء. تحبّ الحياة الدنيا وما فيها من لذّات مختلفة. صحيح، أنت عصيّ الطبع. ترفض الأفكار المنتهيّة وما أتاه الأوّلون من سبل محدّدة. أنت تحبّ الاختلاف وتكره الجمع والجماعة والناس إذا اتّفقوا واصطفّوا صفّا. أنت تبغض كلّ فكر استوفى واستبدّ وكلّ نظر انتشر وعمّ. فكرك تقلّب. فيك شكّ قائم، منتفض. كذلك كنت وكذلك سوف تغادر الدنيا وتلقى وجه ربّك في السماء العليا.

 

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115