فعلاقتنا بالجسد والآخر والعالم والمرض هي اليوم في قلب المحك وفي جوهر تحاليلنا وتساؤلاتنا، وترتبط هذه التساؤلات بالكثير من الحيرة والهلع أمام عجزنا على التحكم في تنامي الفيروس وكذلك الكثير من عدم اليقين والحيرة أمام مستقبل العالم.
وتتجه الكثير من التساؤلات والنقد إلى العولمة النيوليبرالية التي هيمنت على العالم منذ ثمانينات القرن الماضي مع هجمة القوى المحافظة في أغلب الديمقراطيات فقد توجه الكثير من المثقفين وحتى القيادات السياسية في العديد من البلدان بالكثير من النقد لهذا المشروع السياسي والاقتصادي والذي قدمته القوى المحافظة على أنه البديل لأزمة دولة الرفاه والمشروع السياسي للحداثة وبداية الانخراط في العالم البهيج لما بعد الحداثة.
فالعولمة كانت حسب الكثير وراء تهميش المسألة الاجتماعية في السياسات العمومية والسياسات الاقتصادية.
كما يشير هذا النقد إلى أن العولمة كانت وراء تراجع الدولة ورفض تدخلها في الاقتصاد والمجتمع. كما ان السياسات النيوليبرالية للعولمة كانت وراء المغامرات للمضاربين الماليين الباحثين عن الربح والجشع والتي كادت أن تعصف بالنظام الرأسمالي.
تعرف العولمة النيوليبرالية اليوم الكثير من النقد وحتى الرفض في واقع أزمة الكورونا والسؤال الذي نريد طرحه هو هل تكون هذه الأزمة هي الأخيرة وتعطي الضربة القاضية لهذه العولمة الجامحة وبداية البحث عن عولمة بديلة أكثر تضامنا ويكون هدفها الاساسي حماية الانسان.
إلا أن هذه الأزمة ليست الأولى في تاريخ العولمة منذ ظهورها فقد عرفت في رأيي العولمة النيوليبرالية خمس أزمات أو تحولات كبرى في تاريخها كادت تقود النظام العالمي إلى نهايته إلا أنها نجحت في كل أزمة في القيام من كبوتها وعرفت كيف تبرز للعالم على أساس كونها الاطار الوحيد لتنظيم السياسة والاقتصاد والعلاقات الإجتماعية في عالمنا.
كانت الأزمة المالية العالمية لسنة 2008 أولى وأكبر أزمات العولمة النيوليبرالية، فقد كان التقييم السلبي لوكالة الترقيم «موديز» العالمية وراء انهيار أحد أهم بنوك «وال ستريت» أي بنك لومان بروذرر (Lehman Brothers) وافلاسها، وكان هذا الافلاس نقطة انطلاق لاحدى أهم أزمات النظام المالي العالمي والتي كادت أن تعصف بأكبر الاقتصاديات الرأسمالية.
كانت هذه الأزمة وراء نقد كبير للسياسات النيوليبرالية للعولمة والمغامرة المالية التي هيمنت على عمليات وتدخلات المضاربين في الأسواق الكبرى. وستكون هذه العولمة وراء عودة الدولة والتي ستلعب دورا أساسيا في إعادة هيكلة كبرى البنوك وانقاذها من الافلاس ودفع الاقتصاد العالمي للابتعاد من شبح الانهيار الاقتصادي وإعادة المؤسسات الاقتصادية من خلال وضع قواعد صارمة لايقاف المخاطرة وجشع المضاربين في الأسواق المالية.
وكنا توقعنا أن هذه الاصلاحات الكبرى ستنهي العولمة الجامحة وتفتح المجال لظهور عولمة جديدة تجعل من الانسان اهتمامها الأساسي. إلا أنه مع ابتعاد شبح إفلاس البنوك الكبرى عادت حليمة إلى عادتها القديمة ورجعت العولمة إلى هيمنتها على العلاقات الدولية وكأن شيئا لم يكن.
الأزمة الثانية التي ستعيشها العولمة النيوليبرالية ستأتي إثر ثورات الربيع العربي سنة 2011، ولئن قامت هذه الثورات ضد الاستبداد وتحجر وانغلاق الأنظمة السياسية العربية فقد وضعت الاصبع في جانبها الاقتصادي على قضايا التهميش الاجتماعي وتزايد الفوارق الاجتماعية في عديد البلدان التي اعتبرتها المؤسسات المالية العالمية كأنجب تلاميذ العولمة.
ومنذ هذه الثورات ستصبح المسألة الاجتماعية وتزايد الفوارق من القضايا الأساسية لتصبح في جوهر النقد الموجه للعولمة باعتبارها لعبت دورا أساسيا في تنامي التهميش الاجتماعي. وسنعرف صدور العديد من الدراسات والمؤلفات التي قدمت ايضاحات ضافية حول هذه الأزمة ومسؤولية العولمة في تصاعد الفوارق، وستكون هذه الأزمة وراء ظهور مسائل الاندماج الاجتماعي في السياسات العمومية.
أما الأزمة الثالثة فستعرفها العولمة الرأسمالية إثر الحادث النووي في مدينة «فوكوشيما» اليابانية في مارس 2011. وكان هذا الحادث والانفجار النووي الكبير نتيجة الزلزال والتسونامي الذي اجتاح ضفة المحيط الهادي في مدينة طوهوكو (Tohoku)، وقد كان هذا الانفجار وراء موجة كبيرة من النقد للانعكاسات الخطيرة للعولمة والتسابق في الانتاج الرأسمالي على البيئة والمحيط، وكانت المسائل البيئية والانحباس الحراري وراء اهتمام كبير في المؤسسات الدولية والمجتمع المدني ولكن بدون أن نكون قادرين على ايقاف العولمة المجنونة وانعكاساتها على البيئة العالمية.
وسيكون انفجار «فوكيشيما» وراء تغيير هام في النقاش العالمي وأولويات النمو والاقتصاد لتصبح التنمية المستدامة احدى الأسس في عملية البحث على عولمة جديدة تحترم المناخ والمحيط.
أما المسألة الرابعة فتخص تحول هام عرفه العالم سنة 2013 مع صعود الصين الى موقع أهم قوة تجارية في العالم حيث وصل وزنها التجاري إلى 11 ٪ من التجارة العالمية متجاوزة بذلك ولأول مرة الولايات المتحدة الأمريكية والتي بقيت بمستوى 10،3 ٪، لقد أصبحت الصين منذ 2009 تتبوأ مركز الصدارة في الصادرات العالمية وأصبحت تتجه تدريجيا لتصبح القوة الاقتصادية الأهم في الاقتصاد العالمي، وقد صاحبت الصين في صعودها الاقتصادي عديد البلدان الأخرى مثل الهند والبرازيل والأرجنتين وتركيا وافريقيا الجنوبية والتي تمكنت من الخروج من واقع التخلف والتهميش الذي كانت ترزح فيه لعقود طويلة.
وقد شكل بروز هذه القوى الصاعدة ضربة كبيرة للعولمة ولهيمنة البلدان الرأسمالية الغربية على مسارها وتطورها منذ انطلاقها، وسيفتح ظهور هذه البلدان الباب على مصرعيه لبناء علاقات دولية جديدة منفتحة على الآخر.
أما التطور الخامس والذي شكل نقدا لمسار العولمة النيوليبرالية فيخص التحول الكبير في المؤسسات الدولية وحوكمة العولمة إثر الأزمة المالية العالمية في 2008، فقد عرف العالم في تلك الفترة ظهور مجموعة العشرين والتي شكلت اقرار بعجز مؤسسات التعاون الدولي التقليدية مثل مجموعة السبعة الكبار على إدارة الشأن الدولي وتفادي الأزمات وضرورة تشريك القوى الصاعدة في إدارة العولمة.
إلا أن هذه المؤسسات الجديدة سرعان ما تم تهميشها لتفرض المؤسسات التقليدية هيمنتها وسيطرتها من جديد، وفي نفس الوقت كانت الاصلاحات التي طالبت البلدان النامية والبلدان الصاعدة القيام بها في المؤسسات العالمية الكبرى محدودة ولم تفسح مجالا كبيرا للتنوع والتعدد.
لقد فتحت جائحة الكورونا صفحة جديدة في التاريخ الزاخر بالأزمات للعولمة النيوليبرالية، والسؤال الذي يطرح نفسه اليوم يخص قدرتها على إعادة انتاج نفسها وفرض العولمة النيوليبرالية من جديد وكأن شيئا لم يكن. أم أن هذه الأزمة ستفتح مجالا للتغيير وفتح تجربة تاريخية جديدة ترتكز على الاندماج الاجتماعي والانفتاح والتعاون والتضامن بين الدول والشعوب، إذ الاجابة على هذه الأسئلة سترتبط ارتباطا وثيقا بقدرتنا على إعادة بناء مشروع ديمقراطي وتضامني ليبعث الأمل من جديد في قلب هذه الأزمة وإشاعة شيء من الفرحة والثقة في المستقبل وإزالة الخوف المهيمن اليوم على العالم.