قهوة الأحد: الكورونا، الثورة الاقتصادية القادمة و عودة السياسة

لم تقتصر اجابات الدولة والحكومات على الأزمة الصحية على الجانب الصحي بل تجاوزتها الى الجوانب الاقتصادية والاجتماعية.

وتعمل هذه الجوانب على التخفيف من وطأة الأزمة الاقتصادية وتجنب تحولها الى كساد اقتصادي وانكماش يأتي على الأخضر واليابس.

والقراءة في جملة هذه السياسات الاقتصادية المتبعة اليوم تشير الي بداية ثورة في المجال الاقتصادي. فالعودة القوية للدولة والتأكيد على الجوانب الاجتماعية ومحاولة التجديد في السياسات الاقتصادية والابتعاد عن القوالب الجاهزة والأفكار التقليدية تشكل أبرز السمات للسياسات الاقتصادية الجديدة التي تقوم باتخاذها أغلب البلدان والحكومات في العالم. وتشكل هذه السياسات الجديدة قطعا مع الخنوع والاستقالة التي ميزت السياسات الاقتصادية في عالم ما بعد الحداثة وعودة إلي السياسات العمومية وقدرة الحكومات على الفعل لمجابهة هذه الجائحة.

لقد أدخلت السياسات العمومية تغيرات كبيرة في طريقة عيشنا ونمط علاقاتنا الاجتماعية، ولئن أدخلت السياسات في المجال الصحي تحولات كبرى من خلال اعتماد الحجر الصحي والتباعد الاجتماعي فإن السياسات الاقتصادية المتبعة أحدثت كذلك نفس التغييرات لتستبق بذلك عالم الاختيارات الاقتصادية الكبرى لعالم ما بعد الكورونا.
إن القراءة الأولية في الاختيارات الاقتصادية الكبرى للدول والحكومات لمجابهة الكورونا تمكننا من تحديد خمس تحولات كبرى وأساسية ستشكل في تقديرنا الملامح الكبرى لعالم الاقتصاديين إثر أزمة الكورونا.

الخاصية الأولي والأساسية لهذه السياسات الجديدة تخص العودة القوية في المجال الاقتصادي بعد عقود من التهميش والاقصاء بعد انتصار الثورة المضادة النيوليبرالية في بداية الثمانينات من القرن الماضي لورثة المفكر الاقتصادي الأمريكي ملتون فرديمان (Milton Friedman) ضد المدافع على تدخل الدولة في الاقتصاد أي المفكر الاقتصادي الأنقليزي (John Maynard Keynes)ولم تستمر هذه الرؤية الراديكالية لنهاية دور الدولة طويلا، فسرعان ما وقع تطعيمها برؤية أقل ليبرالية والتي قبلت بعودة الدولة شرط أن يقتصر دورها على تعديل اقتصاد السوق ومحاولة تصحيح نواقص السوق.

وقد هيمنت هذه النظرة على التفكير الاقتصادي وعشنا نهاية القرن على وهم نهاية العالم الصلب والصارم لفلسفة ونظريات الحداثة ودخولنا إلى العالم الوردي والبهيج لما بعد الحداثة. كان العالم فخورا بهذه الثورة والخروج من اكراهات الدولة وتحرير الفرد من ثقل من عالم الحداثة ودخوله لعالم أكثر حرية مع تطور العولمة وظهور العالم الافتراضي والتخلص نهائيا من عالم الحداثة المنغلق والمسجون وراء الكثير من الحدود والمصاعب.

إلا أن هذا الحلم لم يدم طويلا والأزمة المالية العالمية ستدق ناقوس الخطر وتفتح المجال لعودة الدولة لحماية النظام الرأسمالي العالمي والموسسات المالية الكبرى والبنوك العالمية من شبح السقوط المدوي والافلاس.
إلا أنه ومع ابتعاد شبح الأزمة العالمية عاد الاقتصاديون إلي قناعاتهم السابقة حول نهاية الدولة.

إلا أن الاستفاقة مع الازمة الحالية ستكون أكثر حدة حيث ستعود الدولة لتكون في مقدمة المواجهة مع الفيروس وفي قيادة المشاريع والسياسة العمومية لمواجهة الخطر المحدق.
إلى جانب عودة الدولة فإن الخاصية الثانية للسياسات الاقتصادية هي الرجوع القوي للمسألة الاجتماعية والتي تناسيناها وغابت عن اهتماماتنا لعقود طويلة.

لقد جسدت دولة الرفاه البعد الاجتماعي في أغلب البلدان المتقدمة إثر الحرب العالمية الثانية وفي البلدان النامية إثر الاستقلال. وقد تمكنت دولة الرفاه من تأمين وبناء أسس التضامن الاجتماعي في المجتمعات الحديثة، كما قامت باستثمارات ضخمة في أهم المجالات الاجتماعية وبصفة خاصة في قطاعي الصحة والتعليم، وأصبحت المدرسة والمستشفى ذراعي العقد الاجتماعي للمجتمعات الحديثة وللنظام الديمقراطي.

إلا أن هذا العقد الاجتماعي سيعرف انفلات حباته وسيدخل في أزمة عميقة مع الأزمات الاقتصادية التي ستعيشها أغلب بلدان العالم بداية من ثمانينات القرن الماضي وهجمات السياسات النيوليبرالية وستكون الاختيارات الاقتصادية الجديدة وراء تراجع الاهتمام بالقطاعات الصحية في السياسات العمومية لتبدأ أزمة المستشفى العمومي والمدرسة.
وسيكون تراجع الاهتمام بالمسائل الاجتماعية وراء تنامي الفوارق الاجتماعية والتهميش التي ستصبح في جوهر النقاشات العمومية في العقد الأخير.

وستذكر أزمة الكورونا بأخطائنا السابقة وتؤكد بقوة على ضرورة إعطاء المسألة الاجتماعية كل الاهتمام الذي تتطلبه.

الخاصية الثالثة للسياسات الاقتصادية في هذه الأزمة هي العودة للسياسات غيد التقليدية والقطع مع السياسات التقليدية التي سادت في أغلب البلدان في السنوات الفارطة، وقد سادت في العقدين الأخيرين نظرية حياد السياسات الاقتصادية (neutralité des politiques économiques) والتي ساهمت في ترويجها التيارات النيوليبرالية وجعلت منها المرجع الفكري المهيمن على السياسات العمومية.

ويرتكز هذا المبدأ على القدرة الخارقة للفرد على التنبؤ بانعكاسات السياسات الاقتصادية المستقبلية وبالتالي لن يتماشى ولن يتبع السياسات العمومية، وبالتالي فإنه لا ضرورة لصياغة سياسات اقتصادية نشيطة إلا أن تواتر الأزمات الاقتصادية منذ 2008 سيدفع الدولة إلي الخروج من حيادها والعودة إلى السياسات الاقتصادية النشيطة من خلال عودة السياسات النقدية والمالية والجبائية لأدوارها في دعم الاستثمار والنمو والخروج من الانكماش الذي يعيشه العالم.

وتأتي الأزمة الحالية لتؤكد على هذا الدور وضرورة إعطاء أهمية كبيرة للسياسات الاقتصادية والقطع نهائيا مع نظرية حيادها.

الخاصية أو السمة الرابعة لهذه السياسات الاقتصادية تخص التوجه إلى كل أدوات هذه السياسات واستعمالها من أجل دعم الاقتصاد وتفادي مخاطر الانزلاق في أزمة اقتصادية كبرى غير محمودة العواقب، وهنا لابد من الاشارة أنه في العقود الأخيرة وتحت تأثير التيارات النيوليبرالية وقع التقليص والتراجع عن دور السياسات النقدية التي تنفذها البنوك المركزية المستقلة.

إلا أن الأزمة الأخيرة أكدت على أهمية استعمال كل أدوات السياسات الاقتصادية من مالية ونقدية وجبائية لايقاف تدهور الوضع الاقتصادي.

أما الخاصية الخامسة والأخيرة فتهم التخلص من القواعد والمبادئ الضيقة التي وضعتها السياسات والتحولات النيوليبرالية كتحديد سقف للعجز لا يتجاوز 3 ٪ من الناتج القومي الخام ورفض التمويل المباشر للمالية العمومية من قبل البنوك المركزية.
وقد نادت أغلب البلدان المتقدمة كبلدان الاتحاد الأوروبي والبنوك المركزية بضرورة الخروج من هذه القواعد البالية واعطاء الأولوية لعودة النشاط الاقتصادي وابتعاد شبح الأزمات الخانقة والقاتلة.

إن السياسات المتبعة اليوم تشكل قطيعة كبيرة في عالم الاقتصاديين الصغير، فالهدف الأساسي لهذه السياسات هو عودة القدرة الجماعية على التغيير والخروج من الاستقالة الجماعية التي كرّستها السياسات النيوليبرالية من خلال عودة الدولة وسياساتها النشيطة، وتشكل هذه السياسات عودة للسياسي في الاقتصاد بعد عقود من الرفض والاقصاء إثر هيمنة الفكر النيوليبرالي والأراء التكنوقراطية.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115