المقولة التي تؤسس لهذا التمشي هي بكل بساطة عالم ما قبل الجائحة وعالم ما بعد الجائحة. وبالرغم من التشكيك في هذه المقولة فأن الأسئلة الكبرى ستجد طريقها إلى أن تصبح أسئلة المجال العام. يقود المشككون في عالم ما قبل وعالم ما بعد الجائحة فكرة أن النظام العالمي وهو نظام رأسمالي بالأساس سيحاول كالعادة استرداد أنفاسه وسيمضي إلى مزيد تعويض الخسائر التي لحقت به عبر المزيد من إدماج الناس في حمى الاستهلاك ومزيد خلق احتياجات جديدة قد يكون عنوانها اقتصاد المخاوف. وعلاوة على هذا سيعود الناس إلى حياتهم اليومية غير مقدرين لحجم ما حصل لهم. إنهم سيعودون إلى نسق أيامهم بضغوطاته واكراهاته العديدة. والخلاصة أن لا شيئ مهمّ وذو بال سيتغير هذا إذا لم تدم الأزمة طويلا.
على النقيض من ذلك هناك من يصرّ على أن الفاصل بين المرحلتين ظاهرو سنشهد بروز عالم جديد بأسئلة جديدة وبتحديات من نوع آخر وأهمها تحدّ الخدمات العمومية بكل أنواعها وتحدّ إدارة العمل وترتيب المهن من جديد ومزيد تقديم الاعتراف لاختصاصات وقع تهميشها في الماضي . هذا علاوة على علاقة الانسان بالطبيعة والاحتياجات الكبيرة للتضامن الإنساني. ونعتقد أن من بين الدروس الأولى المستخلصة درس الديموقراطية. والسؤال الذي يمكن أن يُطرح هنا هو هل استطاعت الديموقراطية بصيغتها الحالية أن تعطي الحلول لنوع جديد من الأزمات؟ وهل أظهرت هذه الجائحة خللا ما في هذه الديموقراطية؟
نعتقد أن هذه الأزمة الصحية العالمية قد كشفت وهذا ليس بجديد عن ثغرات الديموقراطية التمثيلية. وأهم هذه الثغرات هو انكشاف عجزها وعدم قدرتها على مواجهة أزمة بمثل هذا الحجم. وأظهرت الجائحة ضعفا فادحا في سداد الخدمات الصحية العمومية وتفكيكها وهو شأن التعليم والنقل. وتشير الأرقام أنه في فرنسا على سبيل المثال وقع التراجع عن أعداد تتجاوز عشرات الآلاف من الأسرة في المستشفيات العمومية منذ بداية الألفية، وأن الميزانيات الموجهة للقطاع الصحي لا تفي بحاجة المواطنين إلى الخدمات الضرورية وهو وضع غير مرتبط فقط بجائحة الكورونا، إنه خلافا لذلك وضع سابق عليها. ويندرج هذا ضمن سياسات التدخل العمومي التي تتراجع منذ أكثر من عقدين ونجد تونس ضمن هذا التوجه.
تأتي في هذا السياق المساءلة الاجتماعية لتضع هذه السياسات أمام حقيقتها. والمقصود بالمساءلة الاجتماعية مشاركة واسعة النطاق للمواطنين في مراقبة توجهات السياسات العمومية وآدائها وطبيعة الخدمات المسداة وحوكمتها والنتائج التي تحصل بعد ذلك. والمساءلة الاجتماعية هي مشاركة المواطنين ومساعدتهم لصانعي القرار كي يكونوا أكثر جدوى في التصرف في السياسات العمومية. وتدخل المساءلة الاجتماعية ضمن المقاربات التشاركية التي أخذت في اكتساح ميادين الحوكمة والتصرف. وتقع المساءلة الاجتماعية حين تؤدي المؤسسات العمومية وظائفها، فهي ليست مساءلة ما بعدية تقع عند محاسبة السياسيين أثناء الحملات الانتخابية مثلا. وآليات المساءلة الاجتماعية عديدة و منها مشاركة المجتمع المدني في نقاش ميزانيات المؤسسات الصحية، و منها مناصرة المجتمع المدني و المواطنون الراغبون في ذلك لأي برنامج من برامج التوعية الصحية، و من الآليات الأخرى مساهمة المجتمع المدني في مناقشات جادة مع إدارة المستشفيات و مع الإطار الطبي و شبه الطبي لتحسين نوعية الخدمات العلاجية و الأمثلة على ذلك عديدة.
قد نحتاج في مرحلة ما بعد الكورونا إلى تعزيز ثقافة المساءلة الاجتماعية لنقف عند نقاط الضعف وعند التجاوزات الممكنة وعند ملاحظة الضعف في الأداء. وتنطبق هذه المساءلة الاجتماعية على قطاعات الصحة والتعليم والنقل علاوة على قطاعات أخرى تُقدّم فيها خدمات للمواطنين. وتتمّ هذه المساءلة الاجتماعية عبر قنوات المجتمع المدني والمواطنين وأيضا المشتغلين في أي قطاع معني بهذه المساءلة والهدف من ذلك هو مزيد تحسين الخدمات ومزيد تحقيق رضاء المواطنين عليها.
يُدرك الجميع الآن أن القطاع الصحي هو من أولويات ما يمكن إخضاعه لإصلاحات كبرى. ويتجه هذا الادراك مباشرة إلى تشييد المزيد من المستشفيات في الجهات الداخلية وتجهيز ما هو موجود منها الآن. وبالرغم من أحقية الجهات الداخلية بمثل هذا النوع من الخدمات، فإن الأهم من هذا كلّه هو إرساء حوكمة جيدة لهذه المؤسسات التي يقع إنشاؤها. والمساءلة الاجتماعية في هذا السياق لا تقل أهمية من أي آلة طبية ذات تكنولوجيا عالية أو الترفيع في عدد الأسرة أو أي إجراء أخر يُتخذُ. فبدون مساءلة اجتماعية متواصلة وجدية لا يمكننا الخروج من أزمة الخدمات العمومية التي نعيشها الآن. ونكون قد فشلنا في استخلاص دروس مرور الجائحة....