الإنسان المدمّرة للبيئة، أسلوب حياته اليومية ساهم في اختلال توازن الكوكب التي يحتضنه، أكثر من أي وقت مضى.. تنفست الأرض لبرهة هواء أكثر نقاء، وفي الوقت الذي تتعافى فيه طبقة الأوزون وتتنفس فيه الأرض يختنق فيه بعض البشر من آثار فيروس الكورونا، كل يكافح كي يحيا، بكل ما في الحياة من معاني وتفاصيل..
في الحقيقة يخاف البشر من المجهول الذي قد يخنقهم بل وقد يحرمهم من الحياة.. كورونا هذا المجهول، قد يفعل هذا أيضا..
الكورونا جعلني أستحضر صور طفولتي، أثار مخاوفي القديمة ، مخاوف الإختناق.. بفعل ذلك المرض الذي ورثته رغما عني.. كان مريعا في طفولتي، لم يفسدها ولكن جعلها تعاني من حين إلى آخر، إن لم أقل دائما.. هذا المرض جعل صدري يعزف موسيقى مبهمة، حشرجات لبتهوفن وموزارت في نسختهما السيئة، إذا افترضنا نسخا سيئة لهما.. كنت أخجل من ذلك البلغم الذي لا يتوقف، ولا يستسمحني عذرا أمام الناس حتى أخذ منديلا وأتفل فيه وأرفع رأسي إن كان هناك من يراقبني.. لا أعرف هكذا كنت أخجل.. كنت أكتشف هذا المرض بالتجربة، لأنّي لا أفهم كلام الأطباء وقتها.. حتى وإن كنت أفهم، التجربة هي الحقيقة عندي، كأن أكتشف أنّ في فصل الصيف يهدأ المرض.. أما باقي الفصول متقلبة تقلّب أنفاسي.. ورغم ذلك لم يفارقني بخاخ الربو أبدا.. كان دائما في جيبي وبجانب وسادتي.. من يدري، فالأنفاس تختنق أحيانا دون سابق إنذار..
اكتشفت أنّ بذور زهور الربيع يمكن أن تسبب لي الحساسية، الرطوبة، الصوف، وبر القطط والكلاب وغيرها.. كل هذا صرت أتجنبه.. عندما أعطس أدرك أنّ هنالك محفزا لهذا العطاس.. بعض الزهور مثلا، لا يحقّ لي استنشاقها لأنها تخنقني، وتضيّق رئتي، كأنّ نملا شرسا ينخر المساحة بين أنفي وأذني وحلقي، فتدمع عينايا، أفرك أنفي بقوّة ثم أدخل إصبعي في أذني عسى أن أوقف دبيب النمل، وأحكّ حلقي بلساني.. لكنّ الدبيب لا يتوقف إلا إذا ابتعدت عن كل الذي يسبب لي هذه الحساسية.. زهور البهيرة مثلا ، أراقب جمالها من بعيد ولا أقترب منها.. أقنعت نفسي أنّ حساسيتي ليست مرضا إنما هي مجرّد إختلاف.. المهم أنّي بخير..
في الحقيقة ليست الأمور بهذه البساطة، إنها أكثر تعقيدا كأن يتطوّر المرض ويصبح خانقا عندما تسبقه الانفلونزا، نعم مجّرد انفلونزا، أتدرون ماذا يفعل هذا الفيروس الحميد لمرضى الربو؟ يمكن أن يتسبب في خنقهم حتى الموت.. لولا الدواء الناجع، ولولا الطب الرحيم..
قد يختفي هذا المرض لفترة طويلة نسبيا بعد سنين من التلاقيح، لكنه يعود دائما، لأكتشف قناعا جديدا له، كأن يتطور بمحفزات جديدة لم أكن أعلم أنها سببا مباشرا في انسداد الأنفاس.. كأن تحزن حزنا شديدا، كأن تتأثر أو تتألم كثيرا.. هذا المرض لا يحبّ العواطف المدمرة، لذلك تعلمت أن أقاوم أي عاطفة سامة قد تنشأ داخلي أو قد تكون قناعا أو تصرفا لشخص ما.. ببساطة عرفت أنّ لدّي حساسية للأشخاص السامة، وللأفكار السامة، وللتعصّب أيضا.. وكل ما يخلق الاحتقان والجهل.. هذه السموم لا تفعل ما يفعله دبيب النمل، إنما تهاجم الأنفاس دفعة واحدة.. لذلك من محاسن هذا الربو أنّه يعلّمك أن تبتعد عمّا يخنقك.. وعمّن يٌضيّق أنفاسك.. هكذا تغلّبت على هذا الميراث.. على هذا المرض..
وها أن الكورونا مجرّد عامل جديد أضيف على القائمة، نبتعد عنه بالبقاء في البيت، الأمر سهل كما ترون.. بل نتعلّم منه أنّ الأخطار التي نخشاها دائما، ليست هي ما قد يهدد حياتنا، ربّما ألدّ عدو هو ذلك الذي يرانا ولا نراه. نحتمي بالبيوت إذن..يذكرنا أيضا أنّ لا نصافح الأيادي المتّسخة التي دائما ما تبدو نظيفة.. نصافح بأعيننا وكفى لأن العيون مرآة للروح، والمرايا لا تكذب، تنقل الصورة كما هي..
كورونا تستوطن الأفواه المفتوحة.. والصامتون لا يقربهم الفيروس عادة. جميل أن نقفل أفواهنا لنطلق العنان لآذاننا كي ننصت جيدا.. كورونا يذكرنا.. فلعلّه مصل لحياة أخرى ممكنة .