أجلس في زاويّة. في خشوع، أستمع إلى ما يقوله الإمام فوق المنبر. آتي الصلاة. بعد الصلاة، أعود إلى بيتي وفي قلبيّ شدّة وضيق. تراني في يأس. أسبّ نفسي والأيمّة. ما قاله الإمام، جاء كالعادة ضحلا، سخيفا. أتى الإمام كالعادة وعيدا شديدا. حكى خرافة ساذجة. خطابه ضحل. لا ينفع ولا ينير. هو ظلام. هو نفخ في الريح.
° ° °
قال المنصف، صاحبي، في صلاة الجمعة الفائتة، في الضاحيّة الشماليّة، كان لنا إمام متحفّز. هو أستاذ متقاعد. يخطب في الناس بعربيّة قحّة. يومها، أراد الإمام أن يظهر للناس ما لنبيّ الله من كرم أخلاق ومن شهامة. ماذا قال؟ قال: في أوّل الإسلام، كان رسول الله يخطب في المؤمنين من فوق جذع نخلة وكان المصلّون من حوله يستمعون إليه في إيمان وخشوع . استمرّ الحال كذلك زمنا. ثم تطوّر الظرف وقوي عود الإسلام وأصبح للمسجد منبر. في يوم الجمعة الموالي، دعي للصلاة وصعد الرسول فوق المنبر. لم يبدأ الرسول خطابه لمّا سمع والناس من حوله بكاء يسري ودموعا تذرف. نظر الرسول فرأى جذع النخلة يبكي ودموعه تنهمر. دون تردّد، نزل النبيّ من فوق منبره ومشى إلى جذع النخلة يسأله. أجابه جذع النخلة وكلّه حرقة وتوجّع: «أنا حزين لفراقك يا رسول الله. كم أودّ أن أراك تصعد ككلّ يوم جمعة فوق قامتي وتقول للمسلمين خطابك الحسن». عندها، بكى رسول الله تأثّرا وانهمرت دموعه. احتضن الجذع بلطف وطلب منه عفوا ومعذرة. رأى الناس ما فعل الرسول مع جذع النخلة فأجهشوا بالبكاء وأكبروا في الجذع حبّه.
° ° °
في سنة خلت، في أحد شوارع تونس العاصمة، قرب السوق المركزية، التقيت برجل شيخ يلبس جبّة بهيّة. عليه وقار المصلّين وله لحية بيضاء كثيفة. أظنّه إماما أو شيخا صوفيّا. اقتربت منه. حييته. قلت للرجل، أسأله: «سيدي الشيخ، أريد أن أعرف فهل لك أن تدلّني... عندي أخ درس في الغرب حيث كسب علما ومعرفة. بعد سنين، عاد أخي إلى الدار وفرحنا بقدومه. كنّت وإياه نلتقي صباحا وعشيّة. معا، نتحدّث في كلّ مسألة. في ما رأيت، تغيّر فكر أخي. ليس هو أخي المسلم الذي يصوم الشهر ويؤمن باليوم الآخر. في ما أرى، أغرق التعلّم أخي. أفسد طبعه. عيشه لسنين في الغرب غيّر نظره. سلب فكره. انقلب إيمانه أو هكذا أعتقد. أصبح يقول: «إن الإسلام من وضع البشر وأن الجنّة والنار خيال وشبهة». كان الشيخ الوقور يستمع إليّ وكلّه انتباه ونظر: «سيدي الشيخ، أظنّّه تخلّى عن دين محمّد.
° ° °
قال صاحبي وأكّد قوله آخر. في سوسة، في السنة الماضيّة، التقى بائع حلوى أمام المدارس بتاجر يبيع موادّ غذائيّة. كان البائع والتاجر صديقين. يصلّيان معا في نفس المسجد. يحضران جنبا إلى جنب خطب الجمعة. كانا يلتقيان وكلّهما حرص وتودّد. يتبادلان الرأي. يجتهدان في فهم الأمر والنهي. هما أخوان في الدين. هما حبيبان في الإسلام... ذات مرّة، حصل خلاف. قال البائع للتاجر: «إن أمّ الرسول عليه الصلاة والسلام لم يلحقها القرآن وماتت غير مسلمة ولسوف تحشر في جهنّم مثلها مثل غيرها من الكافرين». قال التاجر: «لا، هذا غير ممكن. لن تمشي أمّ الرسول إلى النار ولسوف يشفع لها ابنها النبيّ». طال النقاش واحتدّ. تمسّك كلّ برأيه. غضب الرجلان ومشى كلّ في اتجاهه...
في يوم، بعد صلاة المغرب، وجد الأهل والجيران التاجر في بيته يتخبّط في دمه. ذبح التاجر من الوريد إلى الوريد. مات التاجر في ساعته. رأى الجيران بائع الحلوى صاحبه يخرج من البيت مسرعا. تمّ القبض عليه. لم ينكر البائع وقال للشرطة: «إنّ التاجر مرتدّ، كافر وحكم المرتدّ في الإسلام قتله». مات التاجر وترك من بعده سبعة صغار وسجن البائع لعدّة سنين...
° ° °
مثل هذا الفكر الخرافيّ البائس، تلقاه لدى جلّ شيوخ الدين. تراه اليوم عند الكثير من التونسيين.أنظر في كلام الناس، في ما يأتون من فعل، في ما يحملون من قيم، سوف ترى ما للخرافة على المسلمين من سطو بليغ. ما للغيب من أثر كبير. سوف ترى ما نحن فيه من ظلمات، من جهل مبين. في بلد متخلّف مثل تونس، ما يقوله الأيمّة في المساجد له أثر بليغ على الناس، على رؤاهم، على عيشهم اليوميّ. في غياب تعليم منير، أصبح الجامع هو المؤسّس، الباني لما يحمل الشعب من نظر ومن سلوك...
في الجامع، يوم الجمعة، أنتهي من الدنيا وألقاني مغروسا في زمن غابر، سحيق. ها أنا في الجاهليّة. أسير في الفيافي بين معاويّة وعنترة. لا مكان في خطب الأيمّة لما نحيا من شؤون. قد يتناول الأيمّة ما نحيا من شؤون العصر. لكن، دوما يردّونها إلى غابر الزمن. يعطونها حلولا «شرعيّة»، باليّة، لا تصلح. أمّا المسائل الأخرى مثل ما كان في التعليم من رداءة وفي الصحّة من إهمال ومانحياه من ظلم وقذارة وتهريب... فكلّها غائبة في خطب الأيمّة ويبقى همّ الأيمّة دائما وأبدا: سبّ اليهود...
° ° °
في تونس، لنا وزارة للشؤون الدينيّة تعمل منذ نحو ثلاثين سنة. كلّ عام، لها ميزانيّة تزداد ثقلا مع السنين. في سنة 2020، بلغت ميزانيّتها نحو 150 مليون دينار. هذا مال كثير في بلد يحيا من القروض. هل حقّقت الوزارة بعضا من أهدافها؟ في ما أرى، وزارة الشؤون الدينيّة تنشط خارج الدرب. تمشي ميزانيّتها في ما لا ينفع المسلمين. من أهداف الوزارة «العمل على تطبيق سياسة الدولة في المجال الدينيّ» وعليها أن «تصون القيم الروحية وتدرأ أخطار الانغلاق والتطرف...». ماذا فعلت الوزارة حتّى تطوّر الدين وترفع عن المؤمنين ما أصابهم من انغلاق، من تطرّف؟ 150 مليون دينار تنفق في الشؤون الدينيّة وشؤوننا الدينيّة كما نراها في المساجد ولدى التونسيين خرافيّة الأصل، رديئة، متخلّفة. عماد الدين في تونس اليوم: الانغلاق والتعصّب والجهل المبين...
فشلت الوزارة ولم تحقّق المنشود. في البلاد اليوم انغلاق يشتدّ وهذا تطرّف يتعاظم وهذا إرهاب يدكّ ويقتل الأبرياء والأمنيين. في البلاد اليوم، فهم مريب للدين. لم تنجح الوزارة في ما حدّد لها من شؤون. في مساجدنا، مازلنا نلعن من خالفنا الرأي والمعتقد. في مساجدنا، نكفّر الناس ونلعن اليهود وندعو إلى قتل المرتدّ وكلّ «خارج» عن الدين. في مساجدنا، كلّ يوم جمعة، يدعو الكثير من الأيمّة إلى البغضاء، إلى التكفير. يدفعون بالشباب إلى «الجهاد» وما هو بجهاد بل هو إرهاب بغيض... متى يعود الرشد إلى الوزارة وتشرع توّا في الإصلاح، في تكوين الأيمّة حتّى يغيّروا ما بأنفسهم وينتهوا ممّا هم فيه من ضحالة ومن نفث للجهل، للسموم؟