لدينا ما نتحدث عنه وكفاية. هنا يبدأ الخطأ فالعنف الكامن والمتمدّد والذي ينتظر شرارته لا يعنينا. إننا ظاهريون في التعامل مع مشاكلنا، لا نمتلك الرؤية الكافية لاستباق ما قد يحدث ولا نمتلك ما يكفي من العمق لقراءة المشهد الذي يجعلنا نقرّ أن العنف في الملاعب وما يحيط بها أقرب إلينا مما نتوقع.
في حوار مع شباب ناشط داخل مجموعات الألتراس تبيّن أن القلق الكبير لديهم هو قلق الاعتراف. والاعتراف مقولة حاضرة بقوة في تحليل الظواهر السوسيولوجية. وتعني هذه المقولة ذاك الطلب وتلك الانتظارات التي يبديها الأفراد في حياتهم اليومية من أجل أن يكون لهم موقع ضمن المجالات الخاصة والمجالات العامة التي تعنيهم. كما تطلب الاعتراف وتصارع من أجله المجموعات الدينية والإثنية ومجموعات ذات خصوصية ما كي تتموقع من جديد ضمن شبكات معقدة من التفاعل. في الاعتراف هناك معرفة بالشيء، هناك تصور حاضر وتصور ماض والعلاقة بينهما. مثلما يعني التحديد والتحيين وهنا يتعلق الأمر بالهوية. ولكن للاعتراف معنى آخر هو تبادل الاعتراف بين الأشخاص وبين المجموعات. وحين يقع خلل ما في المعنى الأوّل أي المعنى المعرفي وحين يغيب عن المعنى الثاني أي المعنى الأخلاقي ينشأ الصراع وتنشأ الخلافات ويظهر العنف لتعديل الخلل.
لا يمكننا فهم ما يحدث في مجال كرة القدم من عنف ومن خطاب عنيف إذا وضعنا مقولة الاعتراف وعلاقات الاعتراف جانبا. إذ في وضعها جانبا نكون قد دعونا نقيضها وهي الإهانة وهي الإهمال وهي أيضا التناسي والاحتقار. وما تريده مجموعات الألتراس هو أن يكون لها موقع ضمن خارطة كرة القدم في تونس. تريد ممارسة شغفها كشكل من أشكال الاعتراف بها كمجموعة شبابية ترغب في إثبات هويتها بين الهويات الشبابية الأخرى. فالانتماء لمجموعات الألتراس يتجاوز مجرد انتماء من أجل مناصرة ناد رياضي، إنه أيضا انتماء لتجربة فريدة، وهو انتماء من أجل اكتشاف الذات واكتشاف الآخرين. وهو انتماء من أجل اختبار الصعاب وتجربة المعاناة وتعلم كيفيات تجاوزها. وهو أيضا انتماء من أجل تذوّق نوع من الذكورة ونوع من الشدّة ومن الذهاب بالأشياء إلى أقصاها.
إشترك في النسخة الرقمية للمغرب
لا يمكننا فهم العنف الذي تمارسه مجموعات الألتراس خارج متطلبات دائرة الاعتراف. وخلاف ذلك سنتعامل مع هذه المجموعات بمنطق الشرذمة التي تعكر الصفو العام. وهنا لا يمكننا التحكم في مآلات العنف الذي سيجد قنوات تصريف خارج فضاء الملاعب، سنجده في الأحياء وفي الجريمة المنظمة وفي شبكات الإرهاب. ولا يمكننا إغفال أن أكثر من ثلاثين شابا من الفاعلين ضمن مجموعات الألتراس قد التحقوا بالشبكات الإرهابية بحثا عن مجال مغاير للاعتراف.
نحتاج في التعامل مع مجموعات الألتراس إلى سياسة للإعتراف. وتُبنى سياسة الاعتراف على التعامل مع هذه المجموعات بالجدية الكافية كمجموعات شبابية تحمل مشروعا مهما اختلفنا في تقييم أهميته. هو في كل الأحوال مشروع مهمّ لدى حامليه وهُم مستعدون كل الاستعداد للدفاع عنه بكل الوسائل. نحتاج إلى سياسة للاعتراف تكون قابلة لشغف شباب بتجربة قد تحيد عن المتفق حوله في بعض الأحيان. وهنا من الضروري التأكيد على أن هؤلاء الشباب في حاجة إلى أن يمارسوا شغفهم دون تضييقات ودون تجاوزات وبأكثر ما يمكن من التوافقات مع الساهرين على أمن الملاعب. ولهذا من المنطقي إرجاع الجمهور إلى الملاعب. ملاعبنا الآن غاصّة بالغائبين، وفي غيابهم مضاعفة للعنف الكامن وتصريف له داخل قنوات أخرى أخطر وأفظع ولهذا فإن مدارج ممتلئة بالمناصرين مع ما يمكن أن يحدث من تجاوزات أفضل من مدارج نصف ملآنة.
من المهمّ إدراك أن العنف في سياقنا الحالي مرتبط بشكل عضوي بمقولة الاعتراف. وأي سياسة للحدّ من العنف في أي مجال كان لا تأخذ في الاعتبار هذه المقولة فإن إمكانية نجاحها تبدو ضئيلة جدا....