له فراسة وحنكة. كنت أعتقد أنّ المال زينة الحياة الدنيا، يهبه الله لمن كدّ وسعى وعمل صلاحا وخيرا. في ما مضى، كنت أعتقد في أشياء كثيرة، مختلفة. في ما مضى، كنّا جميعا نحبّ المال ونعزّه... لمّا كنت صغيرا، تأخذني أمّي بين ذراعيها وتقول همسا، في أذني: «إن بذلت الجهد ودرست بجدّ سوف تفوز وترقى. سوف تأكل وتشبع وتلبس وتقطّع. إن بذلت الجهد سوف تمشي في الأرض مرفوع الرأس، مبجّلاا». الكل في عائلتي كان يكدّ، يسعى في طلب العلم، في نيل الشهائد العليا. الكل ينشد أرقى وظيف، أفضل شغل. مع الوظيف، تصبح عبدا ثريّا، محترما. ينزل عليك الأجر كالغيث، بردا ونعمة. أنا وإخوتي وأمّي كنّا نعتقد أنّ المال هو أساس الحياة. به تصلح الأحوال ويتحقّق العيش الرغد. بالمال يعلو شأنك في الأرض وتبتسم في وجهك الدنيا...
مرّت السنون تجري. ها أنا كهل. بعد أيّام قليلة، أصبحت شيخا. بالأمس، كنت أوصي طفليّ وطلبتي أن عليهم أن يجتهدوا حتّى يكسبوا معرفة وعلما، حتّى يوفّروا لأنفسهم شغلا. يجب أن ينهضوا باكرا ويكدحوا كدحا. بالجهد يتحقّق الوظيف وبالوظيف يكون المال وتحيا. هذا ما كنت أرى وهذا ما كنت أعيده على مسامع ابنيّ وطلبتي وكلّ فرد ألقى. كنت أحذّرهم من التقاعس، من الكسل. كنت أنبّههم من عواقب الحاجة والفقر. إن الفقر لعذاب أزرق. أمّا المال، «هذا الوسخ» كما تقول العامّة، فهو وسيلتكم في الدنيا. بالمال تستقيم حياتكم في الدنيا ولكم في الآخرة مقاما وحظوة...
عفوا طلبتي لقد أخطأت القول. لقد أفسدت ما تحملون من تطلّع وفطرة. عفوا أصحابي لقد جانبت الصواب وخالفت الحقّ. معذرة أمّي. ما كانت الدنيا جمعا للمال ولا هي عمل وكدح. عفوا أيّتها النفس المعذّبة. ما الحياة جهاد وكدّ ولا هي اكتناز للذهب والفضّة...
° ° °
أنا اليوم في الستّين من العمر. أنا اليوم في السبعين من العمر. أنا اليوم متقاعد، أنظر في الحياة الدنيا. أنظر في ما كنت أحمل من قيم وفكر وفي ما كنت آتي من قيام وفعل. أنظر في من كان حولي من بشر مختلف. اليوم، أدركت أنّي أخطأت السبيل ومشيت في أزقّة مضلّة. اليوم، أعلم أنّي ضيّعت البوصلة. ما كانت الحياة شدّة وبذلا. ما كان المال زينة الحياة الدنيا ولا هو نتاج أصحاب الفطنة والسعي. أنا اليوم أحمل قيما أخرى. أقول إنّ المال هو كدر الحياة الدنيا. أمّا أصحابه فجلّهم بؤساء، جهلة. لا رشد لهم ولا فراس ولا فكر. أنا أخطأت النظر. أنا أضعت العمر في ما لا ينفع عيشا. اليوم، أقول إن لا علاقة بين الجهد والكسب، إن لا علاقة بين السعي وما كان من نتائج منجزة. لا جدليّة ولا ارتباط بين الفاعل وفعله. في ما أرى، ليس للإنسان ما سعى، بل جاء سعيه فوضى وكسبه صدفة. الحياة صدف. كلّ الحياة هي من أمر الصدفة. الصدفة ليست البخت ولا هي القضاء والقدر. الصدفة كلّ أمر، خيرا كان أم شرّا، جاء عرضا. صاعقة تنزل من السماء فجأة، على حين غفلة. تضرب بعشوائيّة وفوضى...
حين أرى بعض السياسيين والأطبّاء والقضاة والخبراء المحاسبين وأهل الرياضة والتجارة وغيرهم من المهن ومن المحتكرين والنافذين في الأرض وقد فاض ثراؤهم كلّ حدّ، لمّا أستمع إلى ما يقوله هؤلاء وأرى ما هم فيهم من فعل ومن شان، أعتقد راسخا أنّ الأرزاق توزّع بلا احتساب وتأتي كما شاءت الرياح والصدف. أعتقد أنّ أصحاب المال والجاه لا يحملون ضرورة فكرا ولا حدسا وما كان لهم أن اشتغلوا وبذلوا جهدا. عند الكثير من أهل المال والنافذين في الأرض، أرى فكرا بائسا ونظرا صفرا. لدى العديد منهم، هناك كسل ضارب وقعود قائم وفساد يجري. أحيانا، يصادفني أن ألتقي برجال لهم مال وشأن، لهم باع وذراع. أستمع إلى ما يقولونه من قول. أتبيّن ما يطرحونه من فكر فلا أرى غير ضجيج مصدّع ولا ألقى غير كلام باهت، كلّه ضحالة ولغو...
لا يا صاحبي، هي الصدف ترزق هذا من حيث لا يعلم وتفقر هذا من حيث لا يدري. هي الصدف تجعل من ذاك سيّدا أمّا الأخر فتسحله سحلا. هي الصدف رياح تجري. تهبّ شرقا وغربا. تصبّ في كلّ مصبّ... أمّا الفطنة والذكاء والعمل الجيّد والبذل والقيام في النهار وفي الليل، كما الكسل والتواكل والقعود والجهل... فكلّها جميعا أعراض، تعلّات لا علاقة لها بما كان من فوز ومن فشل، بما حصل من ثراء ومن فقر. كلّها هوامش لا تغني وظواهر لا تمسّ أمرا... لا تسأل من أين لك ذاك العلوّ أو السقط بل اسأل عن الصدف وكيف هي رفّعت وحطّت...
° ° °
كان رضوان شابّا بهيّا. فيه طموح وتطلّع. كان حسن الوجه. طويل القدّ. في عينيه خضرة. كان من عائلة متوسّطة الحظّ، فلاحيّة. في العشرين من العمر، كان الشابّ يشتغل في الليل وفي النهار. كان يكسب مالا وفيرا ينفقه على أبويه وإخوته وفي ما يشتهي من عيش. كان رضوان محبّا للحياة. يمشي في الأرض مرحا. يلبس ما أراد من اللباس ويأكل ما اشتهى من أكل...
يحسن رضوان العزف على آلة موسيقيّة. في الليل، مع صحبه، كان يحيي الحفلات. في كلّ زواج، تراه يعزف، يغنّي. كلّ ليلة وحتّى طلوع الفجر، عاش رضوان في طرب وزهو. في أعقاب الحفل، ينال الشاب نصيبه من المال ويعود إلى بيته تعبا. في الغد، صباحا، ينهض رضوان. يمشي إلى مستودع للميكانيك. فيه يشتغل. فيه يتعلّم الصنعة. كذلك، كان عيشه طوال الصيف وفي الشتاء أيضا. في النهار يصلح السيّارات وفي الليل يغنّي. تعب الشابّ. أرهقه العمل في الحفلات، في المستودع.
في يوم من أيّام الصيف، تحت سيّارة معطّبة، بين العجل، هزّ رضوان نوم عميق. ها هو بين نعاس وشخير. تفطّن صاحب المستودع. جذبه من قدميه. نهره. حكى أمره لأبيه. هدّده بالطرد... في الغد، دعا الأب ابنه وأمره أن يختار بين الميكانيك أو الغناء في الأعراس. بعد أخذ وردّ، قرّر الكلّ أن ينتهي رضوان من الأعراس وأن يتعلّم الميكانيك وفي الميكانيك مستقبل ورزق.
عاد رضوان إلى المستودع وطلب العفو من العرف وانكبّ يتعلّم ما في السيّارة من قطع وما كان من عطب. حذق الشابّ عمله. أصبحت له تجربة وصنعة. حان الوقت ليكبر رضوان وينطلق في الشغل لوحده، في مستودعه. فتح على بركة الله مستودعا صغيرا. جاءه الحرفاء من كلّ بقعة. ذاع اسمه. كبر المستودع وفيه اليوم عملة مختصّون وآلات وفرن. ها هو يوسّع في نشاطه. ها هو يشتري سيّارات فخمة، يبيعها لحرفاء أغنياء، كثر. أصبح رضوان على رأس مؤسّسة معتبرة. أصبح من كبار أثرياء القرية. له ديار وشقق وله مال في البنوك وأرصدة...
في مطلع 2011، اندلعت الثورة وحصلت غزوات في البلاد ونهب وحرق. أشعل «الثوّار» عديد المقرّات والمغازات والسيّارات الفخمة. يومها، كانت لرضوان عديد السيّارات الفخمة. خوفا عليها من نار، في البلاد، ملتهبة، خبّأها في الديار وفي مستودعات أخرى. استمرّت الثورة وهذه تونس تشتعل كل يوم أكثر. كسدت السوق وعمّت الأزمة واشتدّت. كسدت السوق. اضطر رضوان إلى بيع سيّاراته الفخمة بأثمان بخسة. من يشتري سيّاراته الفخمة في ظل ثورة مشتعلة؟ خسر رضوان مالا كثيرا. في بضعة أشهر، أصبح غير قادر على خلاص العاملين، على تسديد الديون. يجب أن يقترض أكثر. ارتفعت تكلفة القروض. ازداد وضعه غرقا. باع ما ملك من ديار ولم يسترجع السوق نسقه. ها هو اليوم يرزح تحت أعباء قروض وفوائض مرهقة... ينتظر رضوان «صدفة» أخرى. لعلّ الأيّام تعود إلى ما كانت عليه من بهاء وعزّة. من يدري ما سوف يحصل في الغد من عوارض مختلفة. كلّ شيء ممكن. كلّ شيء اليوم هو رهين الصدفة...