حديث الفرد: إعجاز النصوص من عجز القرّاء (2) السوق، هذه العقدة المعقّدة

الكتابة كدّ وجهد. حين أكتب ألقى عسرا في تحرير الكلام، في مسك المضامين، في تحديد الدلالات. رغم ما فيها من مكابدة

ومعاناة، تبقى الكتابة فعلا حلوا، جميلا. فيها لذّة وانشراح. هي نعيم وحياة. في الكتابة، تأسيس للذات. مع الكتابة، يأخذني القلم وأمشي وإيّاه حيث نشاء. نسافر في الأرض. نحلّق في الأفق، في السماوات. تدفعني الكتابة في كلّ اتّجاه. أحيانا، يجفّ قلمي فأتركه وأنساه. أحيانا، أراه قائما، في استعداد. أمسك به. أجري خلفه، أتابع خطواته. معا، نسبح. نرقص. نمرح. نعبث في الأرض. نمزّق السماء. أؤسّس للأنا الفرد. أنشئ الكون. أبنيه كما أراه. بالكتابة، أتذكّر ما فات. أحيي الأموات. أميت الأحياء. أمشي إلى غابر الزمان. أستبق الزمان…

الكتابة مسمار في نعش الأيّام. حين أكتب، أمسك بالزمان. أكون. أتحدّى الأيّام. أعبث بما مضى وألغي ما هو آت. أطلق العنان لنفسي وأسري بين أرض وسبع سماوات. أرسم الفكر. أنسج منه ما أشاء. أختار التوجّه. أخطّ المضمون. ألغيه. أنساه. أعود إليه. أفكّكه. أربط أجزاءه. أراجع فحواه. أنا لا أكتب. أنا ألهو وهذه نصوصي بين يديّ صلصال. أخيط الكلام كساء. أرتديه. ألبسه لمن أشاء. بالكتابة أنسى. أتذكّر. تراني بين شدّة وانشراح. أسبح في الفضاء. أنا الربّ على العرش استوى. أنا إبليس. أنا شيطان. أنا الدنيا والآخرة وما بينهما من أحوال...

القراءة هي الأخرى عسر ومكابدة. حتّى يتبيّن الكلام ويفهم المقاصد والدلالات، ترى القارئ في جهد. في معاناة. يفكّك الرموز. يجري بين سهول وجبال. يسعى لتتبّع ما جاء في الكلام من عوارض ومن أحداث. يمشي خلف الكاتب، أمامه، من فوق، من تحت، علّه يتبيّن الجمل والمفردات. علّه يدرك ما كان من معنى وما تجلّى من دلالات. القراءة سعي واجتهاد. القراءة كدّ للإدراك، لتتبّع الأثر، للتجاوز، للاستنباط. القراءة كتابة. هي ولادة. هي إفراز لما في النصوص من فحوى وغايات. هي تأويل وتجاوز. هي سبيل آخر للمسك بالنصّ، للتبيّن، لإطلاق الخيال. القراءة مراوحة بين ما كان في النصّ من رسم وما كان لدى القارئ من نحو ومن تمثيليّات...
° ° °
دعني الآن من كلّ هذا... في ما مضى، كتبت عديد المقالات. أنتجت نصوصا ونشرتها في الأسواق. لا أدري إن لاقت نصوصي في الأسواق إقبالا. لا أدري إن أعجب القرّاء بمقالاتي. يسعدني كثيرا أن أرى لي قرّاء... ها هو رئيس المصلحة الإدارية يعجب بمقالي. ها هو يسأل عمّا ضمّنته من أفكار. أنا فرح بهذا الرجل وبما كان بيني وبينه من كلام. هو حيّره المقال وما فيه من إشكال. أنا نسيت المقال. في ما مضى، كنت أنتجت بضاعة ألقيت بها في الأسواق. لقيت بضاعتي في الأسواق إقبالا. هو إقبال قليل، ضعيف، لا محالة. لكنّه إقبال. في يوم ما، ربّما، تزدهر سوقي ويقبل على بضاعتي القرّاء...

هل أن ما كنت قد كتبته سيلقى لدى القرّاء إقبالا؟ في الحقيقة، لا أظنّ. أنا مبتدى، ضعيف القدرات. أنا لا أحسن الكتابة. أودّ أن أصبح كاتبا. له باع وإشعاع. له قرّاء. أودّ أن تلقى نصوصي في السوق قبولا ورضاء. في انتظار ذلك، أنا أجتهد. أتعلّم. أدقّق النظر. أعيد نسج الكلام، مرّات. دوما أجتهد. دوما في حرص حتّى تكون نصوصي بهيّة، فيها جماليّة وحسن بناء... هل يكفي حرصي على جعل نصوصي بضاعة مضمونة البيع في الأسواق؟ لا أظنّ. لا يكفي الحرص والجهد لتحقيق الغايات. ما كلّ سعي يوفّق ضرورة بنجاح. بعد النظر، أنا لا أرى علاقة تجمع بين الفعل وما كان من فشل أو نجاح. لا صلة قائمة بين جودة السلع وازدهارها في الأسواق. كم من نصّ جميل، طريف، فيه مضامين بهيّة ظلّ أثرا منسيّا ولم يلق لدى القرّاء قبولا أو ترحابا؟ قد يحصل العكس. كم من نصّ بائس، رديء يلقى في السوق صيتا ورواجا؟ في بعض الكتابات التي لاقت رواجا، أحيانا، أرى بلادة فكر وسقط كتابة...

أمر السوق غريب. السوق عقدة معقّدة. السوق غموض وإشكال. لا أرى في سيرة السوق منطقا ولا صوابا. السوق جنون. هو حصان أرعن، سائب، يجري مع كلّ ريح، في كلّ واد. السوق، عندي، صدف وحظوظ وقضاء...

ماذا أقول؟ أنا لا أؤمن بالبخت ولا بالصدف ولا بما تأتيه السماء. لا دخل للسماء في ما يفرزه السوق من أحكام ولا في ما يأتيه الإنسان من أفعال. ما كان البخت أرزاقا توزّع بلا أسباب. ما كانت الصدف تأتي اعتباطا. أنا رجل عاقل. لا أومن بالغيب ولا بالصدف ولا بالحظوظ النازلة من السماء. أنا أؤمن أنّ لكلّ أمر سبب. هناك، ولا شكّ، أسباب تجعل من تلك البضاعة مزدهرة في الأسواق وتلك الأخرى كاسدة، لا تباع. الكلّ يعلم أن لا اعتباطيّة في السوق ولا مكان فيه للصدف، للحظوظ، للنزوات. أنا عقلانيّ، أؤمن أنّ لكلّ علّة سببا وأن لا مجّانيّة ولا خوارق في الحياة. للصدف دوما عوامل محدّدة وللحظوظ دوما عناصر وأسباب...

إن كانت هناك أسباب محدّدة تضمن النجاح، تمكّن من الفوز في الأسواق، فما هي هذه حتّى أضمّنها نصوصي فتلقى نصوصي صدى وترحابا؟ هذا السؤال حيّر فكري. هذا السؤال لم ألق له جوابا. لا أحد ممّن سألت مدّني بشرح أو بجواب. أنا لا أرى سبيلا معلوما ولا منهجا محدّدا يضمن الفوز في الأسواق. أنا لا أرى رابطا بين ماهيّة السعي وما جاء من نتاج. أنا لا أرى علاقة بين الفعل والأسواق. لا أحد قادر على التنبؤ بما سوف يحصل في الأسواق. سبل الفوز هي نفسها أحيانا سبل الفشل والإخفاق.

الفوز والفشل هما وليدا الصدفة. الحياة جميعا، لو أمعنت النظر، هي صدف وحظوظ وأقدار. أتحسب أنّ الفوز نتاج الفعل؟ أتحسب أنّ النجاح في الحياة نتاج جهد الفاعل وما أتاه من فطنة ومن فراسة؟ لا أعتقد. هذا لا يستقيم. أنظر من حولك سوف تعلم وتتبيّن ما هي السوق وكيف تجري الأيّام. أنظر في الناس وما هم فيه من شأن في الحياة. لو دقّقت النظر سوف ترى أنّ لا جدليّة تربط الفاعل وما أتى وما تحقّق من نتائج. أنظر سوف تدرك أنّ الحياة جميعها لخبطة والتباس. هي صدف وحظوظ وشبهات. انّه الجنون يا صاحبي. إنها الحياة... أمعن النظر سوف ترى ما نحن فيه من مغبّة، من ضياع. هي السوق فوضى عارمة. هي الأيّام يانصيب. تجري كما شاءت. في خبط. مبعثرة. شتات. لا عقل فيها ولا رشد ولا بيان...

ماذا أقول؟ هل أصبحت أؤمن بالغيب وبالخوارق؟ هل أصبحت أؤمن بالقضاء وبالسماء؟ هل هو العجز أصابني والهوان؟ ها أنا ريشة في مهبّ الريح. لا عزم لي ولا فعل ولا إرادة. أنا اليوم هباء. بلا عقل، بلا رشد، بلا قدرات. كذلك هي الدنيا صدف وحظوظ وقضاء. فلا تجتهد يا عبد ودع أمرك للغيب، للسماء. لم الفعل وما بالفعل تكون وهذه الأيّام تأتي كما شاءت، غلابا؟ انتهى الفعل يا صاحبي وفني الفاعل منذ زمان. إنّما البقاء للأزل، لله. فاسأل السماء علّها ترضى حتّى تنال. وتضرّع الليل والنهار، علّ السماء تفتح في وجهك الأسواق...

كلّ هذا جنون. كلّ هذا خور. كلّ هذا ظلام. كلّ هذا يزيد في نكد الحياة، في مأساة الإنسان. أنا لا أؤمن بالغيب ولا بالصدف ولا بالسماء. السوق والفوز والدنيا والحياة هي جميعا من إرادة الإنسان، من صنع الإنسان. إن كانت الحياة أمرا مقضيّا، تجرّها يد خفيّة، تؤثّثها الصدف والخوارق فقد انتهى الإنسان. إن كان فوزك في السوق كما أرادت الصدف أو هو حظّ ينزل صاعقة من السماء، فلا فوز لك ولا فضل وسعيك عبث وعيشك هوان...

(انتهى)

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115