حديث الفرد: إعجاز النصوص من عجز القرّاء

لمّا أكتب نصّا، تراني مجتهدا، حريصا. أختار من المفردات ما هو جليّ، بيّن ومن التراكيب ما هو يسير، واضح. أجتهد في انتقاء المفردات،

في صياغة الجمل، في نسج الكلام. أعيد قراءة النصّ، مرّات. في ما أرى، لا غموض في النصّ ولا غبار. هذا ما أعتقد. لكن، خلافا لما اعتقدت، أرى القارئ يمشي في سبل لم أحسب لها حسابا. يلقى في ما قلت معاني مختلفة وغايات لم تخطر لي على بال... يرى القارئ في النصّ ما يريد ويشتهي. يتبيّن المفردات والجمل، لا كما كتبت وشئت، بل كما قرأ هو وشاء. أحيانا، غالبا، ألقاه في اختلاف مع ما ضمّنت من مقاصد ومع ما ارتضيت من غايات. بيني وبين القرّاء، هناك تباين واختلاف. الكاتب والقارئ خطّان متوازيان. لكلّ نحوه، سبله في صناعة الكلام، في فهم الكلام.

تنظيم الكلام صناعة من نتاج صاحبها. فهم الكلام صناعة من نتاج صاحبها. لا علاقة بين صناعة الكلام وصناعة الفهم. لا صلة بين المتكلّم والمتلقّي في صياغة الكلام، في تبيّن البيان. لكلّ طرف مرجعه ومعجمه. لكلّ واحد دلالاته وتمثيليّاته.

هذا الاختلاف في صناعة الكلام وفي صناعة الفهم، مأتاه المفردات وما تتضمّنه من دلالات. لا تحمل المفردات معنى محدّدا، تامّا، لا شبهة فيه ولا اختلاف. المفردات اللغويّة كائنات حيّة، غير مكتملة الدلالة. هي منقوصة. هي تتشكّل حسب مواضعها في الجمل، حسب ما دار وراج بين الناس من فهم ومن معتقد. حسب ما كان للكاتب وللمتلقّي من فكر، من مخزون، من خيال... المفردات هي كالماء يسري. هي في بعض تسيّب، في بعض انفلات. فيها ما هو ثابت وما هو غائب. المفردات اللغويّة هي زئبق رجراج. هي صناديق، نصفها مملوء ونصفها فارغ...

أنظر في المعجم في معنى مفردة، أيّة مفردة، سوف ترى ما فيها من معان مختلفة، من دلالات متماثلة، متباعدة، متضاربة. كذلك، يأتي الكلام دوما متأرجحا، غير تامّ. كلّ قارئ يتمّم الكلام بما كان له من مخزون، من تطلّع، من اطّلاع. كلّ يحمّل الكلام ما ارتأى من معنى، من أوجه. كذلك، يكون النصّ متعدّد الوجوه. يحمل غايات مختلفات...
° ° °
النصوص هي من إنتاج فرد أو جماعة محدّدة في الزمان وفي المكان. النصوص هي منتوج، هي بضاعة. كبقيّة السلع، تمشي النصوص إلى السوق لتباع. في السوق، تتحدّد جودتها ويتقرّر سعرها. جودة النصوص ليست من فعل المنتجين بل يرسمها الحرفاء. تكون بحسب قبول أو عزوف القرّاء. سوق القرّاء هو المحدّد لقيمة البضاعة، لما كان فيها من جودة أو رداءة...

لماذا بعض النصوص يلقى رواجا وبعضها يلقى صدّا واعتراضا؟ كيف يباشر القرّاء النصوص وكيف هم يقيّمون الجيّد منها والرديء؟ هذا هو السؤال. يشدّني السؤال. أنظر في ما كنت كتبت. أسأل نفسي نفس السؤال. منذ زمن، أصدرت كتابا أوّل في علوم التصرّف لطلبة الجامعات وكتابا ثان سمّيته «ورقات». في كلّ مرّة أنتج نصوصا، تراني حريصا على بذل المستطاع، على السعي حتّى يكون الإنتاج حسنا، جليّا، كامل الأوصاف... هل لقيت نصوصي في السوق إقبالا ورواجا؟

رغم ما بذلت من حرص ومن عناية، لم تلق نصوصي في السوق إقبالا. بعد عسر، بعت من النسخ ما يكاد يكفي لتسديد النفقات. لا يهمّ ما كان من خسارة. الأهمّ عندي معرفة سبب كساد سوقي وعدم إقبال القرّاء على كتاباتي. أنا اليوم دوما أسأل: ماذا يريد القرّاء؟ ما هي السبيل لإنتاج نصوص فيها جماليّة وبلاغة؟ حيّرني السؤال. نظرت في ما جاء من نصوص مميّزة حتّى أتبيّن ما فيها من جماليّة، من بيان. لو أدركت ما في هذه النصوص من قوّة ومن إعجاز لاتبعت منهجها وأنتجت مثلها نصوصا «ثقيلة» لها وقع ورواج...

من النصوص الثقيلة التي ذاع صيتها في البلاد: النصّ القرآنيّ. كلّ البلاغة والإعجاز تلقاهما في النصّ القرآنيّ وهذا أكّده قديما وحديثا كلّ النقّاد، جميع الناس. كيف بني القرآن وأين تكمن بلاغته وأين يكمن فيه الإعجاز؟ لو أدركت ما في القرآن من سبل وأدوات، ربّما استطعت مجاراته. ربّما تمكّنت من بناء نصوص بيّنات، تلقى في السوق قبولا وترحابا.

° ° °
القرآن هو نصّ، هو كلام شكّلته الجمل والمفردات. كما هو الحال في كلّ النصوص، لا تحمل الجمل والمفردات، في ذاتها، بيانا واضحا، تامّا. القارئ هو المؤسّس لفحوى السور وما جاء في الآيات. حسب ما تأسّس له من تمثيليّات، يتقبّل القارئ الكلام، يتبيّن فهمه، يقارب الدلالات. كذلك، جاءت تفاسير القرآن صدى لما يحمله الشرّاح والقرّاء. فيها تباين في الفهم واختلاف في الدلالات. شرح السيد قطب للنص القرآنيّ يختلف فحوى ومضمونا عن شرح الطاهر بن عاشور، رغم كونهما عاشا في نفس الزمان. الفرق جاء في ما كان للشارحين من مخزون لغويّ، من ثقافة، من عيش وأحوال. قرأ بن عاشور النصّ وهو هانئ البال وخطّ السيد قطب كتابه وهو بين عسس

ومعتقلات. كما يختلف الرجلان في الزّاد اللغوي، في المخزون، في المصالح...

ككلّ النصوص، لا يحمل النصّ القرآني فحوى محدّدا ولا دلالة واضحة المعالم. المفردات، كما ذكرنا، هي زئبق رجراج. لا تحمل معنى منتهيّا، تامّا. بما لكلّ فرد من خصوصيّات، يؤسّس كلّ فرد مضامين الكلام. القارئ هو المؤوّل للجمل، هو المولّد للمعاني. عند السيد قطب وعند بن عاشور وعند كلّ من تناول القرآن، جاء الشرح صدى لما يحمله الشارح في صدره من تطلّع، من مخزون، من تمثيليّات. كذلك، اختلفت التفاسير بحسب رؤى المفسّرين وجاءت القراءات حسب أعين القرّاء... رغم اختلاف الشرح بين الشارحين، أجمع الكلّ وأكّدوا أنّ النصوص القرآنيّة فيها بلاغة وإعجاز. الكلّ يقول إنّ القرآن قول ثقيل. ليس كمثله قول، كان... يبقى السؤال: كيف استوفى الشارحون إعجاز القرآن؟ ما الدليل وكيف بيّنوا وتبيّنوا ما جاء فيه من حسن بيان؟ أين رأوا الإعجاز؟

إن النصوص، كما بيّنّا، لا تتكلّم ولا هي مفرزة لدلالة تامّة ولا هي حاملة، في ذاتها، لبلاغة وجمال. القارئ هو من يلبس النصوص بلاغة وجمالا. أمّا النصّ فلا يحمل، في ذاته، بيانا محدّدا ولا جماليّة ولا إعجازا. القارئ هو المولّد للفحوى، المؤسّس للجودة أو للرداءة. بما كان في رؤوس القرّاء والشارحين من تمثيليّة، من أحكام، تقبل النصوص أو ترفض، تكون بليغة، محكمة البناء أو هي ساقطة البيان، ضعيفة البنيان...

القرآن، عند المسلمين، هو نصّ منزّل من السماء. هو كلام الله. ولأنّه كذلك، هو مقدّس وبالتالي هو، بالقوّة، على أحسن تقويم وعلى أفضل حال. لمن آمن، القرآن، كتاب مطهّر لا يمسّه انس ولا جان. هو عين البلاغة وجاء كلّه بيان وإعجاز. كذلك، جاء الإعجاب تبعا لما تمّ من قناعة، لما كان من إيمان. إيمان المتلقّي هو المؤسّس للأحكام، هو الدافع لما نرى من إجلال وإكبار. لا يوجد في النصوص، كلّ النصوص، إعجاز. جاء الإعجاز نتاج «عجز» القارئ، نتيجة معتقداته، إيمانه...

لو أعطينا النصوص القرآنيّة لغير المسلمين، هل سوف يلقون فيها قولا ثقيلا وإعجازا؟ لو قرأ هؤلاء السور والآيات وتبيّنوا لوجدوا في القرآن دلالات أخرى وقد لا يرون فيه بلاغة ولا إعجازا... في لبنان وسوريا، هناك مسيحيّون لهم بالعربيّة حذق وتمكّن. قرأ بعضهم القرآن دون أن يجد فيه ما نلقى نحن معشر المسلمين من قوّة ومن جمال بيان...

° ° °
قد يعترض البعض عمّا قلت ويقول هناك إعجاز علميّ في القرآن وهذه آيات بيّنات تثبت ما أكّدته العلوم وما كان ظهر في العصور الحديثة من اختراعات ومن اكتشافات... هذا خطأ شائع اليوم في الأرض العربيّة ويعيده الأيمّة وأهل الدين على مسامع المسلمين من الناس. النصّ القرآني هو نصّ جاء ليبيّن للعباد كيف العيش المشترك وكيف تؤدّى العبادات. لا علاقة للقرآن بالعلوم. لا شأن للإسلام في ما وضعه العلماء. للدين شأن وللعلوم شأن آخر مختلف. لكلّ واحد مجال. للدين مناهج وخصوصيّة وغايات. للعلوم مناهج وخصوصيّة وغايات. على خلاف الدين وما يؤكّده من صلاحيّة لكلّ زمان ومكان، تؤكّد العلوم، كلّ العلوم، أنها ناقصة، مختلّة، لا تصلح لكلّ زمان. العلوم دوما في تطوّر. هي نظريّات وضعيّة، ينسخ بعضها بعضا. فلا وجه مقارنة بين العلوم والدين. سمة العلوم الظرفيّة والنقصان في حين يدّعي الدين صلاحيّة أزليّة واستقرارا تامّا...

دعنا من القرآن فالنصّ القرآني، لمن كان مسلما وفي قلبه إيمان، هو منزّل من السماء وفيه ضرورة جماليّة وبلاغة وإعجاز. دعنا من المقدّس ففي المقدّس خصوصيّات ولننظر في غيره من النصوص الأخرى، تلك التي صنعها الإنسان ويلقى فيها القرّاء جماليّة وبيانا... لماذا يلقى شعر الشابي وكتاب «الأيّام» لطه حسين قبولا وترحابا؟ كيف يلقى كتاب «السدّ» للمسعدي استحسانا في السوق وفي الكتاب تعقيد بليغ وأرى فيه هزّان ونفضان؟ ماذا تتضمّن هذه النصوص «الثقيلة» من بيان حتّى تلقى حظوة في الأسواق؟ يجب أن أرى ما فيها من منهج، من جماليّة حتّى أكتب مثلها وألقى في السوق، أنا الآخر، قبولا وترحابا...

يتبع

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115