حديث الفرد: في ذكرى الثورة لا حرّيّة للخارجين عن القانون

بعد تسع سنوات من الثورة، يشدّني سؤال: ماذا ربحنا من الثورة؟ قد يقول البعض: تسع سنوات هو زمن قصير وأعمار الشعوب

لا تقاس بالسنين. تاريخ الشعوب قرون وقرون. لكنّي، أنا اليوم في السبعين ولم يبق لي في الحياة الدنيا إلا بضع سنين أو أدنى...

لمّا كنت شابّا عتيّا، رجوت الثورة وسعيت قدر جهدي إليها. كنت أشتهي أن أراني مواطنا حرّا، محترما. لي رأي وحرمة ووجود... ها نحن أنجزنا الثورة وانتهينا من حكم ظالم، متجبّر. ها أنا اليوم أنتخب وأقول في الناس ما أريد. نعم، اليوم أنا مواطن حرّ. لي صوت حرّ وحكومة منتخبة ودستور... لكن، هل أنا اليوم راض، سعيد بما جدّ مع الثورة من ديمقراطيّة وحرّيّة وتغيير؟

أمّا النوّاب والرئيس فليتني لم أنتخبهم وليتهم، جميعا، ينقرضون من الأرض، من الوجود. نغّص النوّاب والرئيس عيشي. أفسدوا ما كنت أحمل من حلم ومن ظنون. اليوم، خاب أملي. كرهت نفسي والناس وتونس أجمعين. عفت ما أنتجته الثورة من ساسة سفهاء ومن رجال دين منافقين. كلّهم فسّاد، كلّهم جهلوت. جرّتهم نحس وفعلهم مشؤوم. كرهت الانتخابات والصندوق وكذلك الديمقراطيّة وحرّيّة التعبير. أنا اليوم أحيا في غصّة، في همّ. انسدّ في قلبيّ الأفق. شدّني يأس. قريبا ينتهي العمر ولم أر الصبح ولا النور. أنا في غمّ وهؤلاء ساسة عجّز منافقون وهؤلاء أيمّة يقيمون الصلاة وينفثون في الأرض العصبيّة والسموم...

بقيت حرّيّة التعبير. مع الثورة، انتشى الكلّ بحرّيّة التعبير. الكلّ، اليوم من حولي، يمارس، كما شاء، حرّيّة التعبير. الكلّ يقول في حرّيّة مطلقة ما ارتأى دون رقيب. لكن، لأنّنا لم نعرف في ما مضى حرّيّة، غدت حرّيّة التعبير فوضى. أصبح كلّ يصرخ في الأرض همومه. يقول ما يريد. كلّ يعتقد أنّه الحقّ وقوله هو الصحيح. علا الصخب. لا أحد يسمع الآخر. كثر الصياح. مع الضجيج، ساء الفهم وفسد التدبير. كثر الهمز واللمز. كثرت المناورات واشتدّت الشبهات وازدادت الظنون. هذه عصبيّة تطلع. هذه قبليّة تروج. هذه جهويّة تتألّب. هذه أنانيّة تدور... مع حرّيّة التعبير، اشتدّ التهافت فتضاربت المصالح وتقاطعت السبل. تقطّع الحبل الرابط وتشتّت حبّات المسبحة. في ظلّ ضعف الدولة، ظهرت قوى أخرى منافسة. ها هي القبيلة تعود حاميّة وترى البلاد في الجهويّات تتمزّق.

° ° °
يغيظني ما يأتيه الأيمّة فوق المنابر من جهالة وما يقولونه من نفاق. رجال الدين عنديّ هم أصل البليّة. هم عين المطبّات وأصل المصائب. بالأمس، ساندوا الظالمين وعارضوا كلّ حركة وكلّ تحرّك. اليوم، يقودون حربا على كلّ حداثة. يطلقون سهام ألسنتهم سياطا لبثّ فكر ميّت، محنّط. أفشل الأيمّة الثورة. أفسدوا النظر. قتلوا العقل وأجّجوا العصبيّة. أمروا بالمنكر. بما تمكّنوا من حرّيّة في التعبير، ها هم يقولون في الناس مكرا شديدا. باسم حرّيّة التعبير، ها هم يبثّون الفتن. ينشرون البغضاء بين الخلق والأمم. أصل الإرهاب هم الأيمّة. أصل الشقاق والنفاق هم الأيمّة. أصل التخلّف هم الأيمّة...

هل لهؤلاء الحقّ في حرّيّة التعبير؟ هل للجهلة وللظالمين وللعنصريين وغيرهم من «سقط» البشر الحقّ في القول الحرّ؟ لا أعتقد. لأن القول هو فعل. لأنّ الكلام هو أداة نافذة، فاعلة. بل لعلّ القول هو أبقى وأقوى من الفعل. هو أكثر تأثيرا وأثرا. كذلك، كان الكلام سلاحا مفزعا. استطاع المتكلّمون تشكيل وجه الدنيا كما شاؤوا وها هم يصوغون عقول الناس كما ارتأوا... ما يقوله رجال الدين في المساجد هو ذو أهمّيّة كبرى. له أثر بليغ على ما سوف يكون من فعل وعلى ما سوف يكون من نظر. في أمّة يشدّها الجهل، خطب الجمعة والمساجد محدّدة للفكر، مسوّية للنظر.

من هم رجال الدين؟ رجال الدين هم بشر كبقيّة البشر. ناقصو عقل. يقولون في الناس ما يحملون من نظر ومن معتقد. غالبا، يعيد الأيمّة ما حفظوا عن السلف. هم صدى لزمن ولّى. هم حرّاس المقدّس. المقدّس هو عقيدة وعمل. هو حرام وحلال. هو خطاب يضبط ما يجوز وما لا يجوز، ما هو معروف وما هو منكر. لكن، ما هو المعروف وما هو المنكر؟ ما هو الحلال وما هو الحرام؟ أفليس الحلال والحرام وجهان لعملة واحدة؟ في جدليّة، بينهما اتّصال وتفاعل. حدود الحلال غير بيّنة. حدود الحرام غير واضحة. يتغيّر الحقّ والباطل حسب الظرف، حسب الزمن.

هل تملكّ العبيد اليوم أمر حرام أم هو حلال؟ هل ضرب الزوجة حقّ يجاز؟ هل المساواة في الإرث هو معروف أم منكر؟ هل قطع يد السارق ورجم الزانيّة فيهما خير أم شرّ؟ هل في تعدّد الزوجات جلب للمصالح؟ هل في طاعة أولي الأمر درء للفساد...؟ مع الأيّام، يتغيّر الإنسان. يتبدّل فعله ورؤاه. تكون علاقاته بنفسه وبالآخر. في العلاقات الاجتماعيّة حركيّة لا تنتهي. لا تستقرّ على حال. هي تتبدّل مع الزمان. كذلك، الحقّ والباطل والخير والشرّ والحرام والحلال. هي جميعا تتغيّر حسب المصالح وما كان من أحوال ومن غايات. القيم، جميع القيم، هي إفراز لما كان بين الناس من تبادل، من صراع. حسب الزمان والمكان، ترى الحقّ والباطل بين مدّ وجزر، ترى الحلال والحرام بين تقدّم وتراجع.

• الإنسان وليد الظرف. فكره ينمو أو ينكمش بحسب ما كان من فرص، من تواصل، من إمكانات...
كيف للإنسان أن يحيا خارج الزمان، في ظلّ أمر ونهي منتهين؟ كيف له أن يعمل العقل ويتجاوز ما كان وقد شدّ عقله عقال وسكنت فؤاده المحرّمات؟ الحياة صراع. الدنيا جهاد. لتحيا وتتقدّم، لتلقى المناهج والسبل، يجب أن تفكّر، أن تجدّد الطرق، أن تعيد النظر. يجب أن تبدع وتغيّر السنن والسلوكيّات. في ما أرى، الدين عند الأيمّة نهي وزجر. هو حدود وموانع. الدين هو اتّباع السلف. كيف اتّباع السلف وقد عاش السلف في زمن مضى وفي أرض مغايرة؟ كيف التوفيق بين أزمان وفضاءات لا صلة تجمعها؟ أنا وابني محمّد هذا الذي ربّيته منذ كان رضيعا مختلفان اليوم في كلّ أمر. له سيره ولي سيري. له نظره ولي نظري. لا أعتقد أنّه في ضلالة ولا أراني على صواب...

° ° °
لأنّك تكره رجال الدين، أراك تسعى لمنعهم من حرّيّة الخطاب، من حرّيّة تبليغ ما لهم من فكر؟ لا يا سي شيحة. نظرك ذاتيّ وقولك منحاز. عليك أن تعلم أنّ لكلّ الحقّ في التعبير. للأيمّة أن يقولوا ما شاؤوا من القول فأنت لست عليهم بمسيطر ولا أنت، على الناس، وكيل، وصيّ. الحرّيّة ليست منّة من أحد، بل هي حقّ للناس أجمعين.
صحيح. رأيي خطأ. أعتذر عن قولي المنحاز. يجب أن يتمتّع الأيمّة واليساريون وأهل اليمين والمثليّون واليهود... كلّهم جميعا بحرّيّة التعبير. لكلّ الناس الحقّ في حرّيّة التعبير ولا حقّ لأحد منعهم من ذلك. لكن بشرط: أن يصاغ التعبير في حدود القانون. كلّ تجاوز للقانون يجب أن يحاسب ويردع ردعا مبينا. فلا رحمة ولا شفقة للخارقين للقانون ولا جدال مع المارقين بما في ذلك الساسة ورجال الدين. يجب تطبيق القانون بكلّ حزم على الناس جميعا، من مسلمين وغير مسلمين، من عامّة وأهل الحكم والجاه. تونس ليست أرض المسلمين وحدهم. هي أرض الناس كلّهم، من مثليين ويهود ونصارى وعلمانيين...

ما نسمعه اليوم في المساجد، فيه، أحيانا كثيرة، ثلب وعنصريّة وأحيانا تحريض بغيض. فيه عداء للغرب ممنهج وفيه سبّ للنصارى ولليهود. أبغض الناس عند المسلمين هم اليهود. لا أدري لماذا يكره التونسيّون اليهود. سبب البغضاء ليست فقط فلسطين... إضافة إلى المساجد، ما تأتيه بعض الجمعيّات «الخيريّة» وما تفعله بعض بؤر التعليم والكتاتيب هو إفساد للنشء وفيه تأليب وحثّ على البغضاء بين الناس، وعلى الكراهيّة بين الشعوب. على هذه أيضا يجب تطبيق القانون بكلّ حزم وبلا رحمة. أمّا الأيمّة الذين يدفعون بالشباب إلى الجحيم، أولائك الذين يدعون إلى قتل الكافر، إلى الجهاد، إلى الإرهاب، إلى تخريب العمران وإفساد العيش المشترك... هؤلاء أيضا يجب صدّهم وردعهم بحسب ما جاء به القانون...

أنتهي بالتذكير بما يأتيه بعض نوّاب الشعب وما هم بنوّاب الشعب بل هم أوغاد، مناكيد. بعض من هؤلاء، في خطبهم الحماسيّة، تراهم يسبّون الناس المختلفين، من حامليّ الجنسيّات المزدوجة أو المثليين أو السود أو غيرهم من البشر. يقولون فيهم قولا لاذعا. يصفونهم بأبشع النعوت. هؤلاء أيضا يجب محاسبتهم على ما يقولون. كلّ قول عنصريّ، كلّ سبّ للناس أو فيه تجاوز، يجب أن يحاسب وفقا للقانون وأن يزجروا زجرا علّهم ينتهون من التسلّط ومن المجون...

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115