وتقول الفكرة أن الناس كي يعيشوا بسلام عليهم أن يتفقوا في ما بينهم وتحت إشراف الدولة على طريقة في أن يكونوا مجتمعين بأقل ما يمكن من التكلفة. والتكلفة هي غياب هذا التعاقد بما يعنيه من إرباك شامل وما يعنيه من فقدان البوصلة في تحقيق نوع من الرضا حول العيش المشترك بين الجميع.
من المهم إدراك أن الديموقراطية ليست فقط سلوكا انتخابيا وليست فقط تداولا سلميا على السلطة إنها أيضا هذا التعاقد بين مكونات أي مجتمع عبر قواعد تحظى بقبول واسع. ولكن العقد الاجتماعي ليس فقط اختيارا مواطنيا إذ يمكن لأي سلطة أن تفرض على مواطنيها في سياق زمني معين شكلا من التعاقد وحدث هذا بالأخص مع الدول التي حصلت على استقلالها مع نهاية خمسينيات القرن الماضي وستينياته. فالشرعية السياسية التي انبثقت مع حركات التحرر الوطني أعطت لزعماء هذه الحركات إمكانية بلا منازع لتشكيل تعاقد اجتماعي تكون فيه الدولة مركز هذا التعاقد تفرضه وتسهر بلا هوادة على رعايته لأنه يضمن لها الهيمنة على المجتمع ومكوناته. ومن مواصفات التعاقدات الاجتماعية التي عرفتها دولنا طيلة أكثر من نصف قرن أنها تعاقدات مبنية على تغول الدولة على حساب المجتمع إلى الدرجة التي تسمح لهذه الدول التدخل تقريبا في كل شيئ بما في ذلك طرق الإنجاب ومستوياته مثلما حدث عندنا في تونس مع برامج التنظيم العائلي.
إن ما يميز أشكال التعاقد الاجتماعي هو اعتمادها على القوة الضاربة للدولة، القوة الحزبية والإدارية والأمنية، وتشتغل هذه الأذرع الثلاثة بمقولة الشيخ والمريد التي تجعل نظام الهيمنة متواصلا والأكثر من ذلك تجعله نسقا ثقافيا يعيد انتاج هذه الهيمنة بالرغم من المحطات العديدة التي ينتفض فيها الناس غضبا على فقدان حيويتهم واستقلاليتهم. ولهذا لم تكن الديموقراطية مثلا مطلبا اجتماعيا أي لم تكن بديلا لتعاقد اجتماعي جديد. كانت التنمية وهي في الغالب تنمية غير عادلة محور هذا التعاقد ومبرر تواصله، ولكن وصل في الأخير إلى مأزق لأن ميكاميزمات إعادة انتاجه أصبحت معطلة بالكيفية التي جعلت الناس ينتفضون على هذا النمط من التعاقد.
لم يعد مسموحا منذ بداية هذه العشرية بأن تكون الدولة مشرفة بالكامل على فرص التعاقد الاجتماعي، يريد المجتمع أن يأخذ نصيبه من تشكيل هذا التعاقد. ولكنه إلى الآن أظهر عجزه وهو ما جعله يقلب الموازين فتحولنا من تغول الدولة على المجتمع إلى تغول هذا الأخير على الدولة.
هل نجحنا في تشكيل عقد اجتماعي جديد؟ قطعا لا وهذا سبب الأزمة في كل مستوياتها. وما الأزمة التي حامت حول تشكيل الحكومة مؤخرا إلا إحدى تفاصيل غياب تعاقد اجتماعي جديد لأننا لا زلنا نشتغل بالعقد الاجتماعي الذي خلنا أننا انتفضنا عليه. إن مضمون العقد الاجتماعي الذي أسسته الدولة الوطنية هو مضمون اجتماعي، ليس للفرد فيه سوى الرضا بما تقدمه الدولة وليس له إبداء ما يختلج بداخله إلا في مستوى ما تمنحه إياه الدولة. العقد الاجتماعي الذي أتى إثر الاستقلال هو تعاقد اجتماعي مبني على ثنائية الدولة والمجتمع في حين أن التعاقد المقترح الآن هو تعاقد بين الدولة والأفراد من خلال المجتمع. ولكن هذا الصنف من التعاقد المقترح هو سليل تحولات مجتمعية أصبحت للفرد فيه مكانة جديدة ومتطلبات لم تكن معهودة في السابق. مؤسسات المرافقة الاجتماعية التي كانت إحدى أهم ركائز التعاقد الاجتماعي لم تعد قادرة على فهم متغيرات الواقع وبالتالي لم تعد قادرة على ضمان أسس التعاقد.
إن مقولات التعاقد الاجتماعي الذي لم نصل إليه بعد مقولات جديدة، هي مقولات التمكين والاعتراف والتنمية البشرية و التمركز حول الذات و التقدير والإحاطة الشخصية و الإهانة والهوية واستراتيجيات التواصل و القدرات الذاتية و غيرها، هذه كلها مقولات تعطي مضمونا جديدا لما هو اجتماعي. وبما أن الاجتماعي أصبح له مضمون مغاير فإنه من البديهي أن يكون شكل التعاقد الاجتماعي ومحتوياته منسجمة مع هذه المقولات.
هناك كلفة لغياب تعاقد جديد، وتتجلى هذه الكلفة في الأزمات المختلفة التي تعيشها تونس الآن. ولتجاوز هذه الكلفة ونتائجها من الضروري إعادة النظر في مضامين مؤسسات الدولة وفي أهدافها وطرق تسييرها بما يتلاءم مع المتطلبات المجتمعية التي نعيشها. مؤسسات الدولة المختلفة في حالة تهاوي ولتجاوز هذا التهاوي المتواصل علينا إعادة تشكيل عقد اجتماعي بمقولات تستجيب لإنتظارات الأفراد ضمن مجتمع متحوّل.