لقد عرفت أغلب هذه الأحزاب هزائم انتخابية كبيرة قلصت من حضورها وتأثيرها في المشهد السياسي العالمي، فشهدت هذه الأحزاب انكسارات كبيرة في الانتخابات في السنوات الأخيرة وفقدت بريقها وتأثيرها لتصبح قوى سياسية ثانوية بعد أن لعبت أدوارا أساسية لعقود طويلة في أغلب البلدان الديمقراطية.
تعيش أغلب هذه الأحزاب اليوم أزمة كبيرة وتشهد انقسامات هامة بين أغلب مكوناتها وتراجعات مهمة على المستوى الانتخابي، وتشكل هذه المرحلة قطيعة مهمة في تاريخ الحركة الاشتراكية الديمقراطية وفي تأثيرها في المشهد السياسي العالمي.
لقد برزت هذه الأحزاب وأغلب الحركات الاشتراكية الديمقراطية في بداية القرن العشرين إثر انشقاقات في الحركة الشيوعية العالمية، فقد انقسمت هذه الحركة بين شقين مهمين: الشق الثوري والذي يشمل الأحزاب الشيوعية بقيادة الأممية الشيوعية وخاصة الحزب البولشفي من ناحية والحركات الاصلاحية الاشتراكية بقيادة عديد الأحزاب الأوروبية في ألمانيا والنمسا وفرنسا، ولئن دافعت الأحزاب الشيوعية على الخيار الثوري ونادت بالثورة من أجل قلب النظام الرأسمالي والقضاء على استغلال الطبقات الكادحة فإن الحركات الاشتراكية دافعت على خيار استراتيجي مختلف ويعتمد على الاصلاح من أجل تحسين جذري لتوزيع الثروة لصالح الطبقات الشعبية من دون اللجوء الى الثورة والعنف.
وقد عرفت الحركة العمالية والثورية العالمية صراعا حادا وكبيرا بين هذين الاتجاهين في بداية القرن العشرين، وسينتهي هذا الصراع الى هيمنة الأحزاب الشيوعية وتراجع وهزيمة الأحزاب الاشتراكية في أغلب بلدان العالم، وستدخل الأحزاب الشيوعية في مواجهة لا فقط مع اخوانها في الحركة الاشتراكية والذين ستتهمهم بالخيانة لقضايا ومصالح الطبقة بل كذلك مع الحركة الفاشية الناشئة مع الأزمة العالمية لسنة 1929 وتنامي البطالة والتضخم.
وستقود هذه الأزمات والصراعات الى الحرب العالمية الثانية والمآسي والمجازر التي ستفرزها، وستنتهي هذه الحرب الى هزيمة القوى الفاشية وانتصار القوى الثورية الشيوعية وبروز وعودة القوى الاشتراكية الاصلاحية، وستكون هذه التطورات السياسية وراء بروز المعسكرين الذين سيهيمنان على العالم إثر الحرب: المعسكر الاشتراكي من جهة تحت سيطرة الأحزاب الشيوعية والديمقراطية الغربية والتي ستعرف تنامي وسيطرة الأحزاب الاشتراكية.
ستشكل فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية العصر الذهبي للاشتراكية الديمقراطية في العالم حيث ستقود هذه الأحزاب أغلب وأهم الديمقراطيات في العالم، وستنجح هذه الأحزاب في بناء دولة الرفاه وفي تركيز نظام اقتصادي واجتماعي يتميز بالتضامن والتعاون بين الفئات الاجتماعية تحت رعاية الدولة وغطائها.
الا أن هذا النظام سيعرف بداية أزماته وأفوله مع بداية سبعينات القرن الماضي حيث ستشهد أغلب البلدان الديمقراطية أزمة عميقة، وستنعكس هذه الأزمة بالسلب على أغلب الأحزاب الاشتراكية الديمقراطية في نهاية السبعينات لتشهد هزائم انتخابية كبيرة خاصة في بريطانيا سيعرف الحزب العمالي هزيمة تاريخية أمام صعود المحافظين بقيادة المرأة الحديدية مارغريت تاتشر، كما سيعرف الحزب الديمقراطي في أمريكا نفس المآل مع صعود الجمهوريين وانتصارات رونالد ريغان في الانتخابات الرئاسية.
ستفتح بداية ثمانينات القرن الماضي فترة جديدة في تاريخ المشهد السياسي العالمي مع اهتزاز والهزائم المتتالية للاشتراكية الديمقراطية أمام ضربات الثورة المحافظة وصعود القوى اليمينية، ولن ينجح من هذا الزلزال السياسي الذي سيهز أركان المشهد السياسي سوى عدد قليل من الأحزاب الاشتراكية في العالم ومن ضمنها الحزب الاشتراكي الفرنسي الذي سيصل لأول مرة إلى السلطة مع انتصار مرشح اليسار فرانسوا ميتيران في الانتخابات الرئاسية لسنة 1981.
إلا أن هذه الهزيمة لن تقتصر على الجوانب السياسية بل ستشمل كذلك الجوانب الفكرية والايديولوجية للأحزاب الاشتراكية الديمقراطية، فستقوم الأحزاب اليمينية بثورة فكرية مضادة على النمط المجتمعي الذي دافعت عنه الأحزاب الاشتراكية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية ومشروع دولة الرفاه والتدخل الهام للدولة في أغلب مجالات الحياة الاجتماعية والاقتصادية، وستدعو هذه الأحزاب إلى ثورة نيوليبرالية يعود فيها الدور الأساسي والرئيسي الى السوق ويقتصر دور الدولة فيها على حدود دنيا تهم تعديل الأسواق.
وستكون هذه الثورة النيو ليبرالية وراء تغيير جذري في السياسات الاقتصادية التي ستتجه نحو فتح الأسواق والخروج من الدولة الوطنية والانخراط في مشروع العولمة الرأسمالية، كما ستعرف هذه المرحلة الجديدة تطورا كبيرا للأسواق المالية ولدور البنوك العالمية، وستساهم حركة رؤوس الأموال والتجارة الدولية في تطور العولمة وتراجع نمط ومشروع الدولة الوطنية .
إذن ستنجح الثورة النيوليبرالية في سنوات قليلة في دحر وتراجع مشروع دولة الرفاه وبناء نمط مجتمعي جديد ليبرالي منفتح على الخارج ومنخرط في العولمة ويقتصر فيه تدخل الدولة على حدوده الدنيا، ويشكل هذا النمط المجتمعي نقيض الذي تدافع عنه الأحزاب الاشتراكية الديمقراطية مما سيزيد من عزلتها السياسية لتعيش هذه الأحزاب أحلك فتراتها.
أمام هذه الأزمة وتراجع تأثيرها في بعض البلدان وهزائمها التاريخية في عديد البلدان الأخرى ستقوم أغلب الأحزاب الاشتراكية الديمقراطية بمراجعات كبيرة في بداية التسعينات لبرامجها ورؤاها وسياساتها، وستتجه هذه المراجعات نحو إعادة بناء المشروع الاشتراكي الديمقراطي على مبدأين مهمين: الخروج من مشروع دولة الرفاه والدور التدخلي للدولة في الاقتصاد والمجتمع والمصالحة مع الفكر الليبرالي ودور السوق، كان هذا جوهر الثورة التي قادها عديد القادة في الحركة الاشتراكية الديمقراطية وعلى رأسهم طوني بلار (Tony Blair) على رأس حزب العمال في بريطانيا.
وستكون لهذه الثورة الفكرية انعكاسات سياسية على عديد الأحزاب الاشتراكية حيث سيلمع بريقها وتحقق عديد الانتصارات الانتخابية وتعود الى السلطة من جديد في عديد البلدان كبريطانيا وفرنسا والبرتغال واسبانيا والولايات المتحدة الأمريكية.
وستقطع الأحزاب الاشتراكية مع سياستها السابقة لتدخل بقوة في التوافق الليبرالي السائد على المستوى العالمي منذ بداية تسعينات القرن الماضي الى حدود اندلاع الازمة الاقتصادية لسنوات 2008و2009، وستلعب هذه الأحزاب عند وصولها إلى السلطة دورا رياديا في تطبيق السياسات النيوليبرالية وخاصة في الميدان المالي والبنكي، فسياسات تحرير الأسواق المالية وعولمتها سيقع تطبيقها مع الاشتراكيين في فرنسا وحزب العمال في بريطانيا ومع الديمقراطيين في الولايات المتحدة الأمريكية.
الا أن الأزمة المالية لسنوات 2008 و2009 والأزمات الاجتماعية وتنامي الفوارق الاجتماعية وتصاعد البطالة والتهميش الاجتماعي ستكون وراء أزمة جديدة للحركات والأحزاب الاشتراكية الديمقراطية في أغلب بلدان العالم، وستكون هذه الأحزاب الخاسر الكبير والهام من الثورات التي تمر بها أغلب بلدان العالم منذ سنوات والتي ستعرف صعودا مهما للكثير من الحركات الشعبوية.
أمام هذه الأزمة الجديدة تشهد الحركات الاشتراكية الديمقراطية ثورة جديدة في عديد بلدان العالم تتميز بالعودة الى الارث القديم للحركة ولتراثها الموروث من السياسات التي تم اتباعها في البلدان المتقدمة اثر الحرب العالمية الثانية، وترتكز هذه السياسات بصفة أساسية على ضرورة عودة قوية للدولة لمحاربة التهميش والفقر وإعادة بناء أواصر التضامن الاجتماعي من خلال سياسات جبائية نشيطة، ونجد هذه التوجهات عند الحزب الاشتراكي الفرنسي وأغلب مرشحي الحزب الديمقراطي للرئاسة في الولايات المتحدة الأمريكية وعند حزب العمال في بريطانيا.
الا أن عودة الوعي عند هذه الأحزاب والرجوع لقناعاتها القديمة لم تكن كافية لنجاحها في الوقت الحاضر، فقد عرف حزب العمال هزيمة كبيرة في الانتخابات الأخيرة أمام المرشح اليميني والشعبوي.
إن أزمة الأحزاب الاشتراكية الديمقراطية هي اليوم أزمة هامة تهم كل القوى السياسية وأغلب بلدان العالم بما فيها بلادنا، وتطرح هذه الأزمة ضرورة بناء مشروع سياسي ديمقراطي منفتح مبني على التضامن الاجتماعي والتآخي والتآزر.