حديث الفرد: أنا في حيرة وشكّ، بين إيمان وكفر

حين أنظر في ما فات من العمر، ألقى أنّي تغيّرت. تغيّرت كثيرا. فكري، نظري، سلوكي... كلّ شيء فيّ تغيّر. أنا اليوم عبد آخر.

أنا اليوم عبد مختلف. اليوم، أحمل غير ما كنت أحمل من فكر ومن نظر... بالأمس، لمّا كنت شابّا بهيّا، كنت من اليسار، عقلا وروحا. اليوم، في السبعين من عمري، أصبحت من اليمين بل وأرى في اليسار غلوّا وسعيا مختلا. بالأمس، لم أؤمن بالأنبياء ولا بالكتب. اليوم، يخامرني شكّ وتردّد. أحيانا، أؤمن بالقضاء وباليوم الآخر وفي نفس اليوم، أنكر ما كان من غيب وما جاء في الكتب من نار وجنّة. كذلك، أنا. اليوم، أنا مضطرب. فكريّ مشوّش. أحيا بين الإيمان والكفر. تارة، أمشي على اليمين وتارة أنضمّ إلى اليسار. كذلك أنا منذ سنين. فكر متقلّب يسكن قلبي. بين نقيض ونقيض، أسعى...

في ما أرى، أنا لست مؤمنا ولا كافرا. لست من اليمين ولا من اليسار. أنا على حافّة الأطراف جميعا. أحيا بين النور والظلمة، بين الإيمان والكفر. يسكنني عقل ولاعقل... أعجب من الناس لمّا يقولون أنّ لهم ثوابت منتهيّة وأنّ لهم إيمان راسخ لا ريب فيه. لا يمسّه شكّ. هم دوما في ثبات لا يتزحزح. لا يعرفون ريبة ولا ظنّ. قلوبهم مطمئنّة. هم جبال شامخة، صمّاء، لا يمسّها ريح ولا زمن. أحيانا، أسأل إن كان هؤلاء بشرا أم هم نحتوا من صخر؟ هؤلاء ليسوا بشرا مثلي. أنا لست من هؤلاء البشر. أنا لست صخرا ولا جبلا. أنا سهل ممتدّ. أنا لين ومرونة ويسر. في كلّ لحظة، أنقلب على نفسي. أنا آخر. أنا مختلف.

حين أصغي لأهل السياسة وخاصّة منهم من كان في اليسار يحيا، أعجب ممّا يقوله قادتهم من قول منته، من مناهج مغلقة. هم اليقين لا ريب فيه. هم الحقّ جليّ، بيّن. أهلك أهل اليسار ما أصاب عقولهم من انغلاق، ما كان في أعينهم من ظلمة، ما كان لهم من أطر موصدة... مثل اليسار، يفعل رجال الدين. لعلّ اليسار اقتدى في القول وفي الفعل برجال الدين. حسب هؤلاء، الحرام بيّن والحلال بيّن والحقّ والباطل والخير والشرّ هي علامات مميّزة، لا اختلاف فيها ولا جدل. كلّ أمر له معالم وحدود. كلّ حقيقة لا يمسّها مكان ولا زمن. لا سبيل عندهم إلى الشكّ. لا تعرف قلوبهم سؤالا ولا حيرة. لا مجال عندهم لإعادة النظر. يمشي رجال الدين، كأهل اليسار، أعينهم مغلقة. إلى الوراء ناظرة. عند هؤلاء، كلّ نظر جديد بدعة وكل بدعة هي كفر وكلّ مبدع في نار الجحيم، مستقرّ. لا يقبل هؤلاء المسّ بما اعتنقوا. كلّ مسّ بما اعتقدوا هو رجس من عمل الشيطان. هو كفر...
° ° °
قال صاحبي وأكّد قوله آخر. في سوسة، في السنة الماضيّة، كان أن التقى كهل يبيع حلوى ولوبان أمام المدارس بتاجر يبيع موادّ غذائيّة مختلفة. كان البائع والتاجر صديقين. يصلّيان معا، بانتظام، في نفس المسجد. يحضران جنبا إلى جنب خطب الجمعة. كانا يلتقيان وكلّهما ودّ. يتبادلان الرأي. يجتهدان في الفهم. كذلك، عاشا حميمين منذ سنين. هما أخوان في الدين. حبيبان في الإسلام... مرّة حصل خلاف. قال البائع للتاجر: «إن أمّ الرسول عليه الصلاة والسلام لم يلحقها القرآن وماتت غير مسلمة وبالتالي سوف تحشر في نار جهنّم مثلها مثل غيرها من الكفرة». قال التاجر: «لا، هذا غير ممكن. لن تمشي أمّ الرسول إلى النار ولسوف يشفع لها ابنها وهو على ذلك قدير». تمسّك كلّ برأيه. طال النقاش واحتدّ فقال التاجر علّه يفحم صاحبه: «هل تعتقد أيضا أنّ مريم أم عيسى ستحشر في النار وكذلك الشأن لجميع الأنبيّاء من قبل؟» قال بائع اللبّان والحلوى: «نعم. ذاك مصير كلّ من لم يتّبع تعاليم الإسلام. ذاك مصير كلّ من لم يدل بالشهادتين ولم يتّبع دين محمّد». تواصل الجدل. أتى كلّ بحججه. سعى كلّ لإقناع الآخر. لم تنفع الحجج. تمسّك كلّ برأيه. غضب الرجلان ومشى كلّ في اتجاه نفسه، مقتنعا أنّه على حقّ وأنّ صاحبه في ضلالة...

في يوم من أيّام السنة الماضيّة، بعد صلاة المغرب، وجد الأهل والجيران تاجر الموادّ الغذائيّة في بيته يتخبّط في دمه، ميّتا. ذبح التاجر من الوريد إلى الوريد. مات التاجر في ساعته. رأى الجيران بائع اللبّان صاحبه وعشيره في المسجد يخرج من البيت مسرعا الخطى. تمّ القبض على البائع. سئل. لم ينكر البائع ما فعل وقال للشرطة: «إنّ التاجر صاحبه مرتدّ، كافر وحكم المرتدّ، في الإسلام هو القتل». مات التاجر وترك من بعده سبعة صغار وحبس البائع لسنين عدّة...
° ° °
ذات مرّة، في الظهيرة، في أحد شوارع تونس العاصمة، قرب السوق المركزية، في ما أذكر، التقيت برجل شيخ يلبس جبّة بهيّة. عليه وقار المصلّين وله لحية بيضاء كثيفة وفي جبينه بقعة. اقتربت منه. حييته فردّ التحيّة بأحسن منها. قلت للرجل، أسأله، أختبره: «سيدي الشيخ، أريد أن أعرف وأفهم فهل لك أن تدلّني... عندي أخ درس في الغرب وكانت له شهائد عليا وكسب هناك معرفة وعلما. بعد سنين عديدة في الدراسة، عاد أخي إلى الدار وفرحنا... كنّت وإياه نلتقي صباحا وعشيّة وليلا. معا، نتحدّث في كلّ مسألة.في ما أعلم، تغيّر فكر أخي. أصبحت له أراء غريبة، مجحفة. لم يعٌد هو أخي الذي عرفت. ليس هو أخي المسلم الذي يصوم الشهر ويؤمن بالله وباليوم الآخر. في ما أرى، أغرق التعلّم أخي. أفسد طبعه. عيشه طوال سنين في الغرب غيّر نظره وسلب فكره. انقلب إيمانه كفرا أو هكذا أعتقد. أصبح يقول: «إن الإسلام من وضع البشر وأن الجنّة والنار خيال وشبهة». واصلت القول وكان الشيخ الوقور صاحب الجبّة البهيّة واللحية المتدلّيّة يستمع إليّ وكلّه آذان صاغية: «سيدي الشيخ، أظنّه ألحد. أظنّه تخلّى عن الإيمان، عن دين محمّد. رغم ما بذلت من جهد لم يهتد أخي وظلّ دوما يقول إن الدين خرافة وبدعة. فماذا يقول الشرع حتّى أعلم وأطمئنّ؟». سكت الرجل ردهة. حكّ بأصابعه لحيته الكثّة. رفع رأسه ثم اقترب منّي وقال همسا وكلّه ثقة وعزم: «في ما أعلم والله أعلم، أخوك ارتدّ عن الإسلام وقد أفسد التعلّم في الغرب عقله. قول شرع الله في المرتدّ واضح، جليّ... يجب قتله».

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115