في السماوات السبع. كلّ فرد يسعى ليحيا. كلّ عبد يتدبّر أمره لينعم ويزهو. علّه يسعد ويرضى... هذا ما أعتقد. هذا ما أفعل. مذ كنت صبيّا، كنت أجتهد حتّى أبقى وأفوز وأنعم. أبذل جهدي حتّى أوفّر لنفسي ما استطعت من خير ولذّة. أنهض باكرا، أكدّ، أكدح حتّى أغنم من الحياة الدنيا، حتّى أعيش وأحيا. ككلّ كائن حيّ، أعمل لأوفّر لنفسي ولعائلتي كلّ رفاه، كل سعادة ممكنة... هذا ما أرى وأفعل والناس كلّهم جميعا أراهم في نفس الطريق. في نفس السعي. مثلي.
هل بما فعلت أنا أنانيّ؟ نعم، أنا أنانيّ. أحبّ نفسي وأهلي. ما في ذلك شكّ. هل من عبد في الأرض يكره نفسه؟ من لا يحبّ نفسه هو في نكد. عيشه عذاب وأيّامه غصّة. من لا يحبّ نفسه، قد ينهي أيّامه يوما. سوف ينتهي أمره. ما أقوله هو بديهيّ. كلّ الناس تقريبا يفكرون مثلي. كل العاقلين يتقاسمون نحوي...
أحيانا، لدى البعض، أرى غير هذا النحو. لدى البعض، أرى تصرّفا غريبا، يدوّخ فكري. بدل السعي إلى الحياة والتمتّع بما فيها من لذّة ونعمة، تراهم يمشون في سبل أخرى. أراهم في عناء، في شقاء، في صراع مستمرّ. ما كانت الحياة عند هؤلاء حياة لتحيا. عند هؤلاء، الحياة صدام وصراع وشدّة. بعضهم يقضي العمر في نكد، في عذاب، دفاعا على معتقد، على وطن، على رأي. لا عيش لهؤلاء ولا همّ غير النضال من أجل ما اعتنقوا من فكر وما اعتقدوا من طرح. أرى هذا عند بعض رجال الدين، خاصّة. أرى هذا عند من امتهن سياسة أو تعصّب لفرضيّة معيّنة. بعضهم، في سبيل ما سكنه من معتقد وتصوّر، يلقي بنفسه في التهلكة. يمشي إلى السجون، إلى الجحيم، إلى المشنقة. تراه العمر كلّه، في صراع لا ينتهي. في موت عذاب من أجل سنّة أو فكرة... ما كان «غاليلي» محقّا لمّا ألقى بنفسه في المشنقة. حتّى يحيا وفي حياته نفع له وللعلوم وللأمّة، كان عليه أن يوقف الأرض. كان عليه أن ينقذ نفسه. أهلك غاليلي نفسه بنفسه وبقيت، من بعده، الأرض تدور ولا تتوقّف. مثله مثل الدين، أحيانا، يصبح العلم تعصّبا. قد يأكل العلماء انغلاق وتحجّر فتضيع منهم الحقيقة ويضيع ما كان من فرضيّة وطرح... لا حقيقة في الأرض. لا شيء ثابت في الدنيا. كلّ شيء في حركة العلوم كالأديان هي فترات محدّدة. هي أفكار تموت وتأتي خلفها أخرى.
° ° °
يؤكّد السياسيون، جلّهم، أنهم على استعداد للموت ليحيا الوطن. يقولون إن غايتهم خدمة الشعب. يؤكّد شيوخ الدين والأيمّة، جلّهم، أنّهم مستعدّون للموت في سبيل الدين ونصرة سنّة محمّد. يقضي المناضلون من اليسار ومن اليمين عديد السنين في المعتقلات، في المنافي، في عذاب أزرق من أجل فكرة، من أجل حلم... مثل هذا لا يقبله عقلي وأراه غلوّا وكفرا وإن رآه غيري وطنيّة ونضالا فذّا. لا شيء عندي يضاهي الحياة. لا شيء عندي أحبّ إلى قلبي من الدنيا. لا شيء عندي يساوي ما في الأيّام من بهاء، من كنه، من لذّة كبرى. ألم يخلق الإنسان لينعم بالحياة الدنيا؟ لم يخلق الإنسان ليموت من أجل دين، من أجل وطن، من أجل فكرة.
أنظر من حولي. أنظر في عجب في هؤلاء السياسيين وفي ما هم يدّعون من شغف، من عشق، من وطنيّة قصوى. أنظر في عجب في هؤلاء المتديّنين وكيف هم فوق المنابر، في بقع التوتّر، يناورون، يفتّنون، يفسدون الأرض ويدّعون أنّهم أنصار الإسلام وحماة مبادئه السمحة. أنظر في بعض وجوه اليسار وكيف هم، منذ عقود، يتحمّلون العذاب ويقبلون بالضيم، بالتنكيل دفاعا عن الشعب، حفاظا على الوطن وللمواطن كرامته... لا أدري لماذا يرضى هؤلاء بالعذاب، بقضاء سنين العمر في دهاليز مظلمة، في الحروب المدمّرة، من أجل فكرة، من أجل قضيّة محدّدة... قضيّة الإنسان الكبرى هي أن يحيا، أن يمشي في الأرض مرحا ويرى ما في الدنيا من جمال وحسن، أن يغنم بما فيها من خير ولذّة.
أحيانا، أسأل من دعا هؤلاء إلى الدفاع عن الشعب؟ من طلب منهم حتّى يضحّوا بأنفسهم ويتكبّدوا شقاء متّصلا، مرّا؟ أحيانا أسأل لماذا هم يحبّون الشعب؟ هل هم حقّا يحبّون الشعب؟ كان الأولى أن ينظر هؤلاء في أنفسهم. أن ينصروا أنفسهم. أن يوفّروا لأنفسهم وذويهم راحة بال ونعيما ورزقا. كان الأولى أن ينعموا بالحياة الدنيا. كان الأولى أن يحبّوا أنفسهم وذويهم والبشر كلّهم، جميعا. أحيانا أسأل لماذا يناصر رجال الدين الدين. لماذا يذودون عن الإسلام؟ من دعاهم إلى ذلك، أصلا؟ كان الأولى أن يتبيّن هؤلاء الدين ويبشّروا بما كان فيه من حبّ ورحمة. أحيانا، أسأل لماذا يحبّ السياسيون الوطن والشعب وليتهم أحبّوا أنفسهم وذويهم ودعونا لأنفسنا، نتدبّر، نحيا.
أنا لست في حاجة إلى نصرة السياسيين ولا إلى حبّهم، أبدا. أنا لم أدع يوما أحدا للدفاع عنّي، لحمايتي، لضمان حرّيّتي والسهر على عيشي. هل يعتقد أهل السياسة أنّي قاصر، أنّي عاجز؟ لا، لن أطلب من السياسيين حماية ونصرة ولا من رجال الدين، غفرانا وتوبة. أنا إنسان راشد، قادر، عاقل ولا أبتغي من أحد وصاية أو هداية أو تضحيّة... أنا مواطن راشد أعلم وأعمل حتّى أحمل نفسي وأوفّر ليّ رزقا. أنا مسلم راشد. أنا لست في حاجة إلى شيوخ الدين ولا إلى الأيمّة حتّى أرى الحلال والحرام وأتبيّن الباطل من الحقّ. أنا أومن بالله وبرسله ولست في حاجة إلى نصح الأوليّاء والأيمّة...
° ° °
لماذا، في هذا البلد، يريد الكلّ وضع يده عليّ؟ لماذا الكلّ يريد أن يكون وليّ أمري، وصيّا؟ هل أنا طفل غرّ؟ هل أنا ضعيف القدرات، لي إعاقة، ناقص عقل؟ أنا لست طفلا صغيرا، غرّا. أنا لست ناقص عقل ولا ناقص دين. أنا عبد راشد. أنا إنسان كفء. قادر على حمل نفسي بنفسي وعلى حماية ذاتي من كلّ شرّ. أن أمشي في الأرض مرفوع الرأس، متطلّعا، كلّي ثقة لتجاوز العسر. أنا قادر على إدراك الإيمان بنفسي وتبيّن ما كان في الإسلام من نور وحكمة. أنا لست في حاجة إلى أحد. إن ضاقت بيّ الدنيا وشدّني عجز، سأبذل جهدي وأكدح وأعيد الكرّة حتّى أجد وأدرك السمين من الغثّ... دعوني لشأني. دعوني أحيا. دعوني أتدبّر، أعيش كما ارتأيت، طليقا، حرّا... كفاني نفاقا وكذبا. كفاني مغالطات وزورا. ارفعوا أيديّكم عنّي وعن الناس وعن الدين والدنيا...
في تونس، في البلاد المتخلّفة، أصبحت السياسة صناعة مربحة. أصبح الدين بضاعة مزدهرة. أصبح النضال تجارة مزدهرة. لدى جماعات اليسار واليمين، غدا النضال صنعة. أداة للكسب. أنظر في العديد من السياسيين، في رجال الدين، فألقاهم جميعا في حظوة كبرى. يغنمون ما شاؤوا من الدنيا. لا يعرفون شقاء وعيشهم رفاه ويسر.