منبــر: الحكومة المنشودة وجدل الوفاق والمسؤولية المغاربية

بقلم: سمية المستيري
تتقدم مفاوضات تكوين الحكومة الجديدة بخطى حثيثة. لكن ينبغي التوافق في نفس الوقت حول اختيار افرادها وحول 

البرنامج الذي ينبغي ان يلتزم به الفريق الجديد. وهنا - حول الشخص المناسب للالتزام بالبرنامج المناسب يقع تحديدا موضع التوافق وبالتالي التقاطع المطلوب ، لا في مستوى آخر.

ان فكرتنا الأساسية هي  التالية: من اجل الاتفاق وبلوغ اختيار نهائي يُرضي جميع الاطراف الحاضرة في المشهد السياسي، ينبغي التوجه نحو القبول  في نفس الوقت ببرنامج حد أدنى ، وبشخصية تتموقع على نحو متسام الى حد ما على الايديولوجيات الحزبية الكاسحة.
واذا ما قيل «وما هو برنامج الحد الادنى» ، نقول : انه شكل في معنى «القالب» القابل للتطويع بقدر يمكّن من استقبال مضامين مختلفة الى حد ما. ويقال عندئذ ومن هي «الشخصية ذات التموقع المتسامي نسبيا»، فنجيب : انها تلك الشخصية ذات «الانغراس» الايديولوجي الكافي للانفتاح على الاختلاف،  وعلى وجه الدقة الانفتاح على المضامين المختلفة.

قد يبدو هذا للبعض موغلا في الغرابة في اقلّه. ولكن الاندهاش سيختفي سريعا عندما ندرك  شيئين ، أولهما أن برنامج الحد الأدنى ليس نوعا من الجراب  الجامع (1) ؛ وثانيهما أن الانغراس الجوهري والماهوي ليس الا الشرط الضروري للانفتاح على الاختلاف ، وبالتالي لضمان تماسك الفريق الحكومي (2).

(1) ان المشروع المذكور ليس في الحقيقة «سفينة نوح»، لأن المضامين هي التي ما ستحدد لاحقا  شكل القالب. فمشروع الحد الأدنى مشروع متحول على الدوام لأن سنده المفاوضات، أي المساومات ما بين الاطراف الحاضرة في المشهد ؛ وهي قيم معارضة تماما لقيم الوفاق. ولا يمكن ان تكون الحال على غير ذلك عند تعارض الايديولوجيات الكاسحة.

انما المشكل واضح  هنا بقدر كبير: انه كيفية تصور رأس يهدي الحكومة في بحر هذه الشروط. فمن المفروض ان تكون الحكومة هيئة «قادرة على  التوقع» لانها قد استبقت بعد الطوارئ من الشؤون، وأن هذا الاستباق يدرك ذاته في معنى مشروع ملموس ذي ملامح  حسنة الرسم والتحديد.
بيد ان الأمر ليس على تلك الحال تماما : وليُقبل منا أن الرأس الهادية ليست مضمونا من المضامين، ولا هي أفقا.

ان النظر الى الامور من خلال منطق الأفق يمكّن من التعاطي معها بليونة دائمة. فلا ينحصر الشأن  فقط في كونه لايمكن لأي كان الزعم  بأن المسار الذي من المفروض أن يوصل  إلى المرسى معروف تماما جملة وتفصيلا؛لانه ايضا وبخاصة في كون الأفق يتعلق بتوتر واقبال على المقبل من الامور، الى حد عدم افتراض نقطة اقلاع ثابتة ومتناسقة .

(2) وهل من الممكن من جهة اخرى رسم دائرة دون وضع رأس الفرجار على وجه الورقة .كلا ...انما الانغراس شرط هذا التحوّل ، وهذا الانفتاح ، وهذا التوجه المتوتر نحو الآخر. فوحدهم الذين يدركون قوة الانغراس يقدرون على انجازتلك الحركة. فليس التسامي المذكور في هذه الحال عموديا ولا متعاليا  ولا مهيمنا. انه في الاساس حركة نُقلة : في معنى انني لا آخذ الآخر بجدية الا عند الاعتراف بنوع انغراسه ، أي بالموضع الذي يتكلّم منه.

ونحن ندرك عندئذ لماذا يعسر على التكنوقراطي انجاز المهمة المنشودة ، وهو ان له ملامح غير المنغرس بالضرورة.فعلى الخلاف مما قد يُعْتقَدُ ،انما التكنوقراطي اليوم أقل الناس أهلية وجدارة لتسيير شؤون مستقبل بلادنا ،لأنه اذا ما استطاع الحضور عند الفرن والمطحنة ، فلن يقدر على الحضور في الحقول الا نادرا كما يقول المجاز الفرنسي السعيد.

ومع ذلك يبقى سؤال آخر: أفلا يمكن أن يؤثرالانغراس على الأفق، وان يوجه المناقشات الى حد يجعل الأخيرنتاجا صرفا للاول ، أي مشروعا جوهريا ماهويا خاصا بمجموعة من المتفاوضين على حساب بقية المجموعات.

ان هذا السؤال مشروع تماما، ولكنه ايضا دليل على علّة مَرَضية أشدّ، هي نسيان كون المطلوب هو ايجاد تقاطع بين المشروع والشخص. فاذا ما أثّرالانغراس في أفق التفاوض ، فذلك يعني ان الشخص ليس المناسب المنشود.انما ينبغي توفرالقدرة على الاستباق لتفادي الانتهاء الى الفشل  والعودة تبعا لذلك مجددا الى البحث عن شخص يكون قادرا على حمل المشروع.

وعندما تدحض فكرة ان بعض المضامين قد تكون قوى دغمائية يتوجب تجريدها من كل أهلية وجدارة منذ البداية للحيلولة دون «ثوران البركان»، عندها يمكن أن الحل شبيها باختبار معاكس لفكرة الكونية التي كان الفيلسوف الالماني كانط قد اقترحها منذ القرن الثامن عشر: وهو اننا نتساءل عوضا عما يمكن حدوثه في حال كانت قاعدة سلوكنا قابلة لأن تصبح كونية ( ومثل ذلك تساؤل كانط: «ماذا يحدث لو عمد جميع الناس الى الكذب؟») بل نتساءل بالاحرى عن الشروط التي تمنع قاعدة سلوك رئيس الحكومة قابلة لأن تصبح قاعدة خاصة بشخصه ، منعا تاما : أي بالتساؤل عن شروط الحيلولة دون مأل الانغراس المذكور الى تموقع متحزّب محدّد.

ان الاجابة الجدية والبرغماتية على هذا السؤال تقتضي في رأيي القبول بتغيير البراديغم المعتمد والتوجه نحو ارساء عقد حكومي لا يقوم  على مشروع يُرادُ انجازه ( من الواضح انني أشير هنا الى الوثيقة التي وضعتها حركة النهضة ونشرتها بين التونسيين)،بل ارساء عقد يتعلق بمسؤولية رئيس الحكومة  باعتبارها شخصا ، وباعتباره عضوا في حزب ، وبالتالي يتصف بانغراس مخصوص: ويكون ذلك  وفق مبدأ ان الاخلال بالعقد سيكون ضرورة لفائدة الكيان السياسي الذي ينتمي اليه رئيس الحكومة. هذا السبب الثاني لقولنا أن التكنوقراطي ليس مؤهلا للترشيح لرئاسة الحكومة : نعني أنه سيكون أقل قابلية لرقابة يسيرة من شخص ذي انغراس حزبي محدّد.

فأين يحصل تغيير البراديغم في هذه الحال؟ انه في اعتبار النظر الى الأمور على هذا النحو  يقتضي التفكير من جهة مسؤولية المجموعة الحزبية أو الهيئة التي يصدر عنها حامل المشروع الحكومي.ومن الواضح انه يصعب على المنظور السياسي الليبرالي القبول بهذه الفكرة. بل ان المنوال السياسي الجمهوري المسكون بالخوف من شبح الفساد ، هو القادر الوحيد على التعاطي مع هذا الشأن على ذلك النحو. ومع ذلك يكفي النظر الى الهيئة الحزبية من منوال معياري هو اللجنة لا من منوال السديم ذي المركز المتحوّل واللزج والزئبقي. وبالتالي اعتبار القرارات الصادرة عن الحزب هي كذلك من حيث هو «شخصية مؤسساتية» مسؤولة حكما. والحزب ملزم بهذه الصفة بتحمّل  مسؤولية كل قرار ، وكل فعل سياسي ، وكل ترتيب قد يغنم هو ، وهذا مهما كان القرار ، أو الفعل أو الترتيب .

نقول في الآخر ، ونحن نستعيد ما دعا اليه المركيز دي ساد الفرنسيين منذ نهاية القرن الثامن عشر الفرنسيين قائلا: «مزيدا من الجهد أيها التونسيون ، اذا ما رمتم ان تصبحوا جمهوريين»  والخروج من جدل الوفاق والمسؤولية المربك.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115