من الهلع طيلة أسابيع الامتحان ولا تزال المدرسة عندنا مدرسة امتحانات واختبارات وهي في الغالب لا تدرك أن هويتها غير ذلك أيضا.
المدرسة ليست اختبارا لتلاميذها فحسب بل هي اختبار للعائلة أيضا. تفوق تلميذ هو في الآن ذاته تفوق لأمّه واخفاقه نسبيا كان أو كليا هو إحساس يخلف ألما لدى الأمّ لاعتقادها أنها قصرت في حقه. ومع إرجاع الأعداد تتسابق الأمهات في إظهار قدرات أبنائهن، هناك من الأمهات من تقول إبني ذكي ولكنه فاقد التركيز هذا إذا كانت أعداده متوسطة أو دون ذلك. وهناك أيضا من الأمهات من يتهمن المعلمين بالمحاباة وبالابتزاز وهذا لوحده مبرر في نظرهن لضعف الأعداد والترتيب. هناك الامتحان وهناك خطاب الامتحان. وفي كل الحالات لا المدرسة راضية على تلاميذها ولا العائلة راضية على المدرسة.
ما الذي يحدث إذا؟
كل ما في الأمر أن مدرستنا مدرسة تقديم المعارف والديبلوم المناسب لهذه المعارف. الجميع متمحور حول هذه الخاصية ولا أحد يريد أن يتركها ليجعل المدرسة أجمل وليجعلها فضاء لتطوير القدرات بعيدا عن المنافسة الحارقة. نهم المنافسة يدفع بالجميع إلى استعمال كل السبل لتحقيق التفوق المزعوم. يكون ذلك في أغلب الأحيان على حساب القدرات النفسية والذهنية للتلميذ. ويكون ذلك على حساب قدرات العائلة المادية وعلى قدرات المرافقة لديها. وهنا لا يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون. ولا يستوي الذين يملكون والذين يملكون. ونتائج ذلك أن مدرستنا فضاء للعنف المادي وللعنف الرمزي لأنها غير قادرة على الإيفاء بتعهداتها إزاء أفراد ليست لهم نفس المواضع.
لا تهتم مدرستنا بالذكاءات المتعددة. لا يهمها القدرات الكامنة لدى أبنائها، يهمها فقط التحصيل المدرسي في اختصاصات بعينها دون أخرى. إنها غير معنية بتطوير قدرات التلميذ على التواصل وعلى التأقلم الجيد مع المحيط وعلى تطوير الفكر النقدي، إنها أشبه في تعليمها بالتعليم الديني التقليدي الذي يقوم عموما على التلقين وعلى حشو الأذهان. وهذا ما يجعل المدرسة مملة عند التلميذ لأن المعرفة التي يحصل عليها يمكن له اكتسابها في أي فضاء آخر وبجودة عالية. ينطبق هذا على دروس الجغرافيا مثلا أو دروس التاريخ، فالأفلام الوثائقية يمكن أن تعطي للتلميذ ما يشاء من المعلومات دون أن يكون ذلك تحت وقع درس طويل ممل وهو مدعو للكتابة دون توقف وعليه أن يحفظ كل المعلومات ليوم الامتحان. مثل هذا الأداء المدرسي لم يعد مغريا في زمن العولمة وزمن الصورة وفي زمن الفرد الذي يريد من المدرسة أن تعطيه ما يناسب طموحاته الجديدة وما يناسب رؤيته لذاته.
لا يمكن للمدرسة الآن أن تغض الطرف عن التحولات الاجتماعية الطارئة. ومن هذه التحولات اتجاه المجتمع أكثر فأكثر نحو الفردنة، أي نحو تصور جديد للفرد لحياته ولمكانته ولمشاريع حياته. أول هذه التحولات هي أن التلميذ عموما كما الوليّ لم يعد يقبل أي شكل من أشكال الإهانة الرمزية في المدرسة كما لا يقبل الاعتداء الجسدي. ولهذا لم يعد أي شكل من أشكال التحرش مثلا مقبولا وما الشكاوى التي تظهر في كل مرة حول ظاهرة التحرش إلا دليل على مكانة جديدة للفرد، لم تكن حاضرة في السابق عندما كانت المنظومة المدرسية تهيمن على الكلّ وتخفي وراءها مأسي عديدة.
إن الفرد الذي يبحث عن التنشئة الاجتماعية من خلال المدرسة يريدها تنشئة تعطي لفرديته ما تستحق من عناية. وهذا يعني مطالبة المدرسة بتوفير كل أسباب الاعتراف والتقدير من خلال خدمات ذات جودة عالية ومعنى التنشئة تغير في العقود الأخيرة ولم يعد تلك الطريقة التي يستكين فيها التلميذ أمام قرارات المؤسسة التربوية ونواميسها والتنشئة الاجتماعية الجديدة شكل من التفاوض يستطيع بموجبه التلميذ أن يبدي رأيه في مخرجات المدرسة وفي طريقة عملها وأن يحتج إذا لزم الأمر على كل تجاوزاتها الممكنة. التلميذ الفرد هو العنوان البارز الآن داخل المنظومة التربوية والمدرسة مدعوّة إلى أخذ هذا المعطى بعين الاعتبار.
لا يمكن لأي إصلاح تربوي في المستقبل القريب ان ينجح دون أن يبعد حالة الهلع المتواصل التي تصيب التلميذ والعائلة على امتداد السنوات. المدرسة في أي إصلاح مرتقب هي المدرسة التي تطمئن مرتاديها لأنها تقدم لهم منتجا خاليا من منافسة قاتلة..