قهوة الأحد: هل هزمت الشعبوية العولمة ؟

لقد عرف الخطاب حول العولمة تحولا كبيرا وجوهريا في السنوات الأخيرة .فبعد سنوات من التثمين وما سميناه في بعض المساهمات»العولمة السعيدة»

والتي اعتبر فيها الكثيرون أن العولمة تشكل الطريق للخروج من أزمة الدولة الوطنية ودولة الرفاه والتي شهدت تراجعا كبيرا بعد الأزمات المتتالية والمتعددة التي عرفتها في البلدان المتقدمة منذ بداية سبعينات القرن الماضي أصبحت العولمة اليوم محل نقد وحتى رفض من قبل الحركات السياسية والمنظمات الاجتماعية .

وأسباب هذا النقد المتزايد للعولمة عديدة ومن ضمنها يمكن أن نشير إلى تزايد الفوارق الاجتماعية والتي شهدت نموا كبيرا في السنوات الفارطة لتصبح إحدى القضايا الحارقة في الخطاب العام .وقد ارتبطت هذه الظاهرة والفوارق الاجتماعية المتزايدة بظاهرة العولمة حيث ظهرت عديد الفئات الاجتماعية المرتبطة بالقطاع المالي أو بالتكنولوجيات الحديثة والتي عرفت تطورا كبيرا في مداخيلها بينما عرفت الفئات الشعبية والفئات المتوسطة المرتبطة بالصناعات التقليدية تراجعا في مداخيلها.كما أن العولمة لم تتمكن خاصة بعد الأزمة العالمية لسنوات 2008 و2009،من خلق ديناميكية اقتصادية جديدة ليبقى النمو ضعيفا وهشا في العشرية الأخيرة .

ساهمت هذه الأسباب في تراجع العولمة ودخولها في أزمة كبيرة في السنوات الأخيرة .ولم تقتصر هذه الأزمة على المسائل الاقتصادية بل تجاوزتها كذلك إلى الجوانب السياسية فقد عرفت اغلب البلدان تراجعا وهزيمة النخب التقليدية التي صاحبت العولمة وفقدت قدرتها على التحكم فيها وتعديلها .وفي نفس الوقت عرفت اغلب بلدان العالم صعود الحركات الشعبوية والتي وجهت نقدا لاذعا لمسار العولمة ولانعكاساتها الاجتماعية والاقتصادية .ولقد أصبح الهدف الأساسي لهذه الحركات هو التراجع عن العولمة والرجوع إلى الدولة الوطنية من اجل الخروج من الأزمات الاقتصادية والاجتماعية التي يعيشها العالم .

وقد كان للأفكار الشعبوية تأثير كبير على السياسات الاقتصادية والاجتماعية المتبعة في جل أنحاء العالم .فلئن وصلت بعض الحركات أو الشخصيات الشعبوية للسلطة في العديد من البلدان ليكون تأثيرها مباشرا في الاختيارات الاقتصادية والاجتماعية فان البعض الآخر أصبح يمثل لاعبا أساسيا في المشهد السياسي وليكون له تأثير غير مباشر في هذه الاختيارات .

ولعل السؤال الذي يطرح نفسه في ظل هذه التطورات هو قدرة هذه الحركات الشعبوية على إيقاف مسار العولمة.وهل تمكنت السياسات الاقتصادية والاجتماعية الجديدة تحت تأثير الحركات الشعبوية على هزم العولمة النيوليبرالية والعودة الى مجال الدولة الوطنية .

وقد استرعت هذه التساؤلات باهتمام المحللين وبالعديد من القراءات والدراسات في ضوء لا فقط القرارات التي أخذتها عديد البلدان للحد من هيمنة العولمة وانعكاساتها السلبية بل كذلك على ضوء التطورات الكبرى لأهم المؤشرات الاقتصادية العالمية . وقد حاولت هذه المساهمات الإجابة على سؤال نهاية العولمة السعيدة ودخولنا في مرحلة جديدة من تاريخ العولمة وتراجع تحت تأثير الحركات الشعبوية .

وتشير بعض المؤشرات إلى التراجع الكبير الذي عرفته بعض مكونات العولمة في السنوات الأخيرة .ومن أهم هذه المؤشرات التي لابد من التوقف عندها هي التجارة الدولية والتي بدأت تعرف تراجعا كبيرا في السنوات الأخيرة .فلقد عرفت التجارة الدولية نموا كبيرا في سنوات العولمة السعيدة حيث سجلت نسبا قياسية منذ بداية تسعينات القرن الماضي إلى حدود أزمة 2008 بلغت ضعف نسب نمو الناتج القومي الخام .وهذه النسب العالية هي شاهد على مستوى تطور العلاقات التجارية والتكامل الذي عرفه الاقتصاد العالمي في ظل العولمة السعيدة.

إلا أن هذا الاتجاه في تطور التجارة العالمية سيشهد تراجعا كبيرا منذ اندلاع الأزمة المالية العالمية لسنوات 2008 و2009 .وسيتواصل هذا التراجع ويتدعم في السنوات الأخيرة حيث لن يتجاوز تطور التجارة الدولية ثلث الناتج القومي الخام سنة 2019.

وتراجع التجارة الدولية كان نتيجة للحروب التجارية التي بدأ يعرفها العالم في السنوات الأخيرة ولإتباع الكثير من البلدان الكثير من السياسات الحمائية .وقد أشارت بعض التقارير الدولية إلى تصاعد نسق الإجراءات الحمائية والتي بلغت سنة 2019 ما يقارب 1291 إجراء أي أربع مرات أكثر مقارنة بالإجراءات التي تم اتخاذها منذ عشر سنوات .

ولا تقتصر التطورات السلبية التي تخص العولمة على التجارة الدولية بل مست كذلك المحرك الثاني الأساسي للعولمة ألا وهو الاستثمارات الخارجية . فقد أشارت بعض التقارير الدولية في هذا المجال إلى تراجع كبير للاستثمارات الخارجية بعد نسب التطور الكبيرة التي عرفتها في سنوات العولمة السعيدة .وتواصل هذا التراجع في الأشهر الأخيرة ليبلغ نسبة %20 في السداسي الأول لسنة 2019.

تشير هذه المؤشرات إلى تراجع كبير في المحركات الأساسية للعولمة أي التجارة الدولية والاستثمارات الخارجية تحت تأثير السياسات الحمائية وتصاعد الحروب التجارية . لكن هل تعني هذه المؤشرات الهامة أننا دخلنا مرحلة ما بعد العولمة ؟.

إن الإجابة على هذا التساؤل ليست بالسهلة.فبعض المؤشرات الأخرى تفند هذه النتيجة وفرضية نهاية العولمة لتشير إلى ارتفاع وتيرتها في السنوات الأخيرة .وهذه المؤشرات تهم حركة الأشخاص وانتقالهم على المستوى العالمي في السنوات الأخيرة .والمؤشر الأول يهم حركة السياح في العالم والتي عرفت نسبة نمو تقدر بين 4 و %5 في السنوات الأخيرة .وتعتبر هذه النسبة هامة إذا أخذنا بعين الاعتبار تزايد الاعتداءات الإرهابية والقضايا الأمنية التي أثارتها .

وفي مجال حركة الأشخاص يمكن لنا كذلك الإشارة الى حركة العمالة والمهاجرين التي عرفت نموا هاما خلال السنوات الأخيرة . فقد بلغت نسبة حركة المهاجرين وتنقلهم مستوى سنويا بـ%2.2 حسب التقارير الأممية.وتمثل هذه النسبة ضعف نسبة النمو الديمغرافي على المستوى العالمي والتي لم تتجاوز %1.2.

إلى جانب حركة الأشخاص فلابد من الإشارة إلى أن الصناعة الدولية وظهور الاتجاهات الصناعية العالمية وبصفة التقسيم العالمي الجديد للعمل حسب منظومة «سلسة القيمة العالمية « أو «les chaines de valeurs mondiales» والتي لعبت دورا كبيرا في إرساء قاعدة صلبة لتطور العولمة ومواصلة مسيرتها .فقد عرفت الصناعة العالمية في السنوات الأخيرة تطورات جذرية كبيرة تجاوزت معه الأسواق والاقتصاديات الوطنية ليقع توزيع اغلب الأنشطة الصناعية على عديد البلدان ترتبط بسلسلة منظمة ومرتبطة ارتباطا وثيقا يساهم في تجميعها من اجل خلق المنتوج النهائي ثم توزيعه على الأسواق العالمية . وقد ساهم هذا التنظيم الجديد للصناعة الدولية في الارتباط الوثيق الذي تعرفه العديد من البلدان ليجعل من العولمة امرا واقعا لا مناص منه .

وقد اهتمت عديد الدراسات في الآونة الأخيرة بتطور هذا النظام الجديد للنصاعة الدولية وانعكاسات السياسات الشعبوية على السلسلة الصناعية الدولية . وقد أثبتت هذه الدراسات ان هذه السياسات وصعود الإجراءات الشعبوية لم ينجر عنها انخرام هذه السلسلة وتراجع كبير للتقسيم العلمي الجديد للعمل .

إلى جانب هذه المؤشرات التي تشير إلى تواصل مسار العولمة فإن أهم الدراسات تؤكد على أن المدافع الأساسي اليوم عن العولمة هي التحولات التكنولوجية والرقمية التي تلعب دورا أساسيا في تطور العلاقات الثقافية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية لتجعل من العامل تلك القرية الصغيرة التي طالما طمحنا وسعينا إلى بنائها .

جملة هذه المؤشرات تجعل من الإجابة على تساؤل نهاية العولمة أمام ضربات الشعبويين صعبة .فلئن تشير بعض المؤشرات الى تراجع بعض محركات العولمة كالتجارة الدولية والاستثمارات الخارجية فان عديد المؤشرات الأخرى تؤكد على تواصل هذا المسار وتناميه وتدعيم قاعدته الاقتصادية والسياسية .

تعيش العولمة اليوم لحظة مفصلية في تاريخها .فبعد سنوات العولمة السعيدة وأمل الخروج من أزمة الدولة الوطنية من خلال انفتاح اكبر على العالم أصبحنا نعيش اليوم أزمة العولمة وتراجع تأثيرها ومشروعيتها أمام ضربات الحركات الشعبوية.

إن هذه الأزمات المتتالية تضع نصب أعيننا ضرورة العمل على بناء مشروع عالمي جديد يهدف إلى بناء التعاون بين مختلف الشعوب وقادر على إعادة بناء ثقتها في المستقبل من خلال برنامج نمو متوازن ،ديمقراطي واجتماعي .

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115