حديث الفرد: في مقهى «البلاستيك» في أريانة

ها أنا وصحبي في صباح يوم أحد، في مقهى البلاستيك، نشرب قهوة. وكنت أمشي وبعض من صحبي إلى المقهى. كلّ يوم أحد، صباحا،

أقضي ساعة أو أكثر في مقهى البلاستيك، في أحد شوارع مدينة أريانة. لا أدري لماذا نمشي إلى هذا المقهى. لا أدري لماذا اخترنا هذا المقهى الشعبيّ. لعلّها الصدفة. لعلّها أسعاره منخفضة. في مقهى البلاستيك، على الرصيف، أجلس وصحبي على كراسي بلاستيكيّة مريحة حول طاولة بلاستيكيّة قديمة، فيها ثقوب سجائر منتهيّة، نشرب ماء وقهوة. كلّ صباح يوم أحد، نلتقي هناك. نقضي معا ساعة أو أكثر. نتحادث. نلهو. نتبادل الرأي. نحكي حكايات مختلفة. نقول في ما لا ينفع. نضحك بلا سبب، طولا وعرضا. أحيانا، نغضب ونرفع الجلسة...

في مقهى البلاستيك، يوم الأحد، ألتقي مع صحبي. كلّ يشرب ماء وقهوة. نحكي في كلّ أمر وشأن. نتكلّم في السياسة وفي نفاق رجال السياسة وأحيانا في الدين وكيف أصبح أهل السياسة والدين في تكالب، في نفاق، في بيع وشراء. ينصبون المكائد. يزوّرون الحقائق. يناورون، ينافقون لكسب الرفاه والسلطة... قتل الدين والسياسة في تونس. أفسد أهل السياسة والدين طباع الرجال والنساء أيضا. ضلّوا وأضلّوا الوطن ودفعوا بالناس في سراديب مظلمة، في سبل مغلقة.

في بلاد الجهلة، يعلو الدين وترتفع راياته المقدّسة. في بلاد الفقر، يأكل السياسيون الأخضر وما تبقّى ويصيب العامّة فاقة وبؤس. في البلاد المتخلّفة، تعلو أيدي المارقين والمرتزقة. في تونس، منذ الثورة ومن قبل، أصبح الدين تجارة مزدهرة. أصبحت السياسة مصدر سيطرة. في البلاد، ترى الهلال والسيف في اتّصال، في تآزر، يشدّ بعضه بعضا. منذ الثورة، ترى أصحاب القصبة في وفاق مع أصحاب الصومعة. كلّ فوق منبره يدعو. كلّ من عليائه يفتي، يناور للكسب، للسيطرة...
° ° °
في مقهى البلاستيك بأريانة، كلّ يوم أحد صباحا، أنا وصحبي نلتقي، نشرب ماء وقهوة. نتحدّث في كلّ أمر. في الطقس، في المطر الذي لا يأتي. في غلاء العيش. في الفوضى. نسبّ زندقة السياسيين ونفاق المتديّنين. نلعن من نحبّ ومن لا نحبّ ونسبّ الناس جميعا والعجم والعرب. ثمّ نمشي الى النساء وما كان لنا معهنّ من مدّ وجزر. كلّ يقول رأيه. كلّ يحكي ما كان له مع زوجته من علاقة متميّزة، متقلّبة... في كلّ صباح يوم أحد في مقهى البلاستيك، تكون المرأة حاضرة، قائمة، منتصبة. المرأة عندنا ركن قارّ، محور مهمّ. علاقة التونسيّ بالمرأة علاقة مضطربة. نحبّها ونكبر ما فيها من خصال متعدّدة ومن لذّة ممنوعة وفي الآن ذاته نراها ناقصة عقل، قاصرة، في منزلة سفلى...

كان صاحبنا شاكر رجلا متّزنا، يشتغل مهندسا وله وظيف عال. كان يؤدّي صلواته الخمس ويصوم الشهر وفي الشهر يصلّي صلوات التراويح المرهقة. شاكر رجل متديّن، في ما يبدو. حافظ للقرآن وما فيه من بلاغة معتبرة. هو شغوف بالأكل وتراه يحكي دوما عمّا طاب من الأكل وأحيانا عمّا لذّ من الشرب. هو يؤدّي الفرائض جميعا والنوافل وما أمر به ربّي. ما كان شاكر بمتزهّد ولا هو بمتزمّت. بل بالعكس، هو يحبّ الدنيا ويغنم من لذّاتها كلّها. هو «عيّاش»، يحبّ الحياة وما توفّر منها. كان يحفظ القرآن. أحيانا، يذكّرنا بما قاله صاحب العرش من آيات وما جاء في الآيات من ثقل وعبرة. ما كان شاكر محافظا. بل هو عاشق للحياة وللنساء ولعديد الأشياء الأخرى. يغنم منها ما استطاع، كلّما سنحت الفرصة. صاحبي رجل أنيق. يلبس أحسن كسوة. يمشي في الشارع مستقيما وله وقار وهيبة. يتكلّم همسا، بلغة نظيفة، مهذّبة. يضحك سرّا. على وجهه وداعة وفي عينيه زور وشيطنة...

سألناه مرّة عن صلته بامرأته وكيف هو معها يتعامل ويحيا. أجابنا شاكر بكلّ بداهة وصدق. قال مؤكّدا: «اسمعوا أيّها الجمع وعووا وخذوا منّي حكمة مسلّمة. من «استرجل» في بيته فقد خرّبه. فانتبهوا وتبيّنوا. من أراد أن يظهر فحولة في بيته سوف يخسر دنياه ولن يفلح أمره. في البيت، عليكم بالطاعة ثم الطاعة. كلّما حصل إشكال أو سئلت عن أمر، أجيبوا دوما بنعم وقولوا للحريم أنت على صواب ولك الحقّ والفضل. أمّا إذا تكبّرتم وعاندتم فسوف تندمون على عنادكم وتأكلوا أصابعكم على معارضتكم وستكونون لا محالة من الخاسرين، الخاسئين... بالجواب دوما بنعم تضمنون راحة البال وتحقّقون طمأنينة في البيت. بنعم تؤمّنون لأنفسكم عيشا هنيئا، مرضيّا». ويضيف شاكر قائلا: «في الدار، أنا لا أعارض زوجتي أبدا. لا أعاند. لا أرفض طلبا. هي تقول وتأمر وأنا أطيع وأنفّذ دون ترقّب، دون تلكؤ. بكلمة نعم، استطعت كسب هنائي وأنا اليوم أحيا في سعادة وراحة بال». نضحك من شاكر وقد انتصب خطيبا، إماما فقيها. نضحك لما أتى من قول ونشكّ في ما ادّعى من طاعة قصوى...

كنّا جميعا مقتنعين، مؤمنين أنّ الطاعة هي السبيل الى النعيم في الدنيا وفي الآخرة أيضا. كنّا جميعا نسعى إلى إرضاء زوجاتنا حتّى نحيا. كلّ يقول، عن اقتناع وغير اقتناع، إنّه يجتهد ويسعى حتّى زوجته ترضى. أمّا بوك عليّ، فكان على عكس شاكر. كان دوما في هيج، في عناد، في حنق مستمرّ. هو يعارض كل رأي. يردّ كلّ قول. وبقدر عناده المستمرّ، تراه في بيته، مع زوجته، وديعا، نعجة. في خنوع، في ريبة، لا يجادل معها مسألة ولا يرفض لها طلبا. إن حصل وشاكس زوجته مرّة، تلقاه في الغد في ندم، يرجو غفرانا ويطلب معذرة...
° ° °
لا تأتي النعاج الى مقهى البلاستيك. يوم الأحد صباحا يمتلئ المقهى بماعز كثير وقد جاء من كلّ عمر. شعب المتقاعدين هو الأكثر عددا. هو من يملأ المقهى. أنا حديث العهد بالتقاعد وكذلك صحبي. نحن مازلنا في أول المرحلة. لم يأخذ منّا الكلل مأخذا. مازلنا، عموما، في صحّة مرضيّة. فقط، بعض الضجر بدأ يدبّ وهذه السنون تسكن الجسم، تأخذ منه، تثقله شيئا فشيئا...

نحن متقاعدون وهذه الأسابيع والأشهر تجري دون أن يكون لنا فيها فعل أو شأن. تتالى الأيّام رتيبة. تمشي في نفس السبيل، على نفس الوتيرة، في صراط مفزع. التقاعد رتابة كلّه وفي الرتابة عذاب وموت. لمّا يستقيم التعوّد ويصبح الزمن خطّا، مسطرة، ينكمش الفؤاد. ينغلق الفكر. ينتهي الحسّ وتغدو الأيّام مضجرة، مرهقة. بلا أمل وبلا غاية تمرّ الساعات بائسة، منهكة. بلا حبّ، ينتهي العمر وتغدو الحياة مفزعة...

في مقهى البلاستيك، كلّ يوم أحد، صباحا، أشرب وصحبي قهوة. خلال ساعة أو أكثر أو أقلّ، نتحدّث في كلّ أمر. نحكي في كلّ شأن. نقول تفاهات مختلفة. في المقهى، يجلس المتقاعدون حلقا، حلقا. كلّ جماعة لوحدها، في نفس المكان، في نفس الطاولة. أنظر في المتقاعدين وقد مشى بهم العمر. كلّ يحمل وهنا وعسرا. أجسامهم متعبة. أحيانا، أغادر صحبي. التقي بالمتقاعدين حولي. أتبيّن ما يقولون من قول. أتلمّس ما في وجوههم من إرهاق وفي أجسامهم من هتك. وجوه المتقاعدين صفراء، بيضاء كجدران المقهى. في أعينهم ضياع وغيب. في أيديهم أحيانا رعشة. في صمت، كلّ يشرب شايا أو قهوة. سكن المتقاعدين تعب مزمن. هذا تدلّى رأسه فوق صدره وقد هزّه نوم. أمّا صاحبه فقد شدّ بيمينه عصاه، يجتهد، يمسك بالعصا حتّى لا تنفلت العصا منه. أمّا الثالث فكان يضرب بأنامله ركبتيه، باتزان، باستمرار، بلطف. أظنّه يغنّي. أظنّه يترنّم. في الطاولة الأخرى، يقول الجالس لصاحبه فلا يسمع صاحبه له قولا فيصرخ وفي صراخه سعال وحشرجة. أمّا الجالس قبالتي فما انفكّ يحكّ عينه اليسرى وفي عينه اليسرى دمعة تتنحّى وأخرى بعدها تتدلّى. أمّا جليسه فكان يدفع بيمينه ذبابا لصّاقا فيأبى الذباب أن ينصرف ويبقى... أعود إلى صحبي وقد أرهقني النظر. أعود الى نفسي وقد تعبت نفسي ممّا رأت من شقاء، من رذالة العمر...

يوم الأحد صباحا، في نحو ساعة أو أكثر، أنا وصحبي نشرب قهوة في مقهى البلاستيك، في أحد شوارع أريانة. لمّا نلتقي، نحكي في كلّ أمر. نقول. نضحك. نقتل الوقت. لا نبالي بما كان حولنا من قذارة وفوضى. لا نبالي بما دار وارتفع حولنا من غبار وأتربة. ننسى أنفسنا وما كان في أنفسنا من إرهاق وشدّة. ننسى العالم والدنيا وهمومنا الأخرى. ننسى تونس وما فيها من خروق وعربدة. في مقهى البلاستيك، ألقاني معلّقا بين السماء والارض. يمشي فكري في دروب مختلفة. تبقى عالقة في رأسي وجوه المتقاعدين وقد جاءت حالكة، متعبة... لمّا يشدّنا الجوع وهذا قلق يدبّ، ننهض، نعود الى الديار وقد نحّينا عن قلوبنا غمّا. أو هكذا نعتقد.
° ° °
عدت الى البيت وفي قلبي غصّة. سألتني زوجتي ما لي مغموم وفي وجهي عبس. قلت لها ما شاهدت في المقهى وما كان في وجوه المتقاعدين من إرهاق وصفرة... أنا اليوم متقاعد وفي الغد، سأكون مثل هؤلاء العجّز. فيّ تبعثر وشدّة. في الغد، سوف تتعثّر خطواتي. أمسح جاهدا دمعا لا يتنحّى. أغالب ذبابا عنيدا يأبى... قالت زوجتي: «دعك من هذا وانظر في نفسك واحمد الله على ما أنت فيه اليوم من خير ومن نعمة». قلت: «عن أيّة خير ونعمة تتحدّثين؟» قالت وفي صوتها تعجّب وبعض حدّة: «ألا ترى ما أنت فيه اليوم من نعمة؟ ألا ترى ما نحن فيه اليوم من هناء وصحّة؟ أنسيت لمّا سكنك المرض الخبيث وأقعدك أرضا؟ أنسيت لمّا كنت على أبواب موت محقّق؟ احمد الله كثيرا ولا تنس». قلت: «ما لك تتكلّمين كعجائز الدهر، تؤمنين بالقدر وبما كان من ابتلاء ونعمة؟ ألا ترين ما نحن فيه اليوم من رتابة، من وهن؟ نحن متقاعدان وحال المتقاعدين، لو نظرت، بؤس وتعاسة كبرى. لو عاينت ما رأيت في المقهى لشدّك غمّ ليس بعده غمّ». قالت: «مالك والمتقاعدين وما هم فيه من وهن ومن صحّة مضطربة. أنظر إلى حالك وانعم بما أنت فيه اليوم من عافيّة وصحّة. ها أنت تمشي إلى المقهى. تعود وحدك، متى شئت. تنام الليل كلّه وتنعس في الظهيرة أيضا. تنهض فجرا. تمشي الى المطبخ. تعدّ لنفسك قهوة. تكتب قصصا مختلفة. احمد الله كثيرا على ما أنت فيه اليوم من قدرة وعلى ما أنت فيه الساعة من عافيّة وصحّة. غدا سوف تكون مثل هؤلاء. غدا سوف يقعدك الزمن أرضا. قد تلقى عسرا في الوقوف مستقيما، في الذهاب مع صحبك الى المقهى. كلّ هذا ممكن. كلّ هذا قد يحصل في كلّ لحظة...

لم التحسّر على ما فات من العمر وأنت تدرك أنّ العمر أيّام معدودة، منتهيّة. فاحرص يا رجل على أن تنعم بالأيّام وتحيى، على أن تغنم من الدنيا لذّاتها ما استطعت. لا تنظر إلى الوراء ولا إلى ما كان في الدنيا من مأساة وظلمة. انظر في الحياة وانعم بما كان في الحياة من جمال، من بهاء، من ضياء. عضّ يا صاحبي على الأيّام وخذ من الأيّام ما فيها من أنس وبهاء. عش اليوم بقوّة. حبّ بقوّة. انطلق الى السماء العليا. اجلس على العرش فهو لك ملك، ودع الزمان للزمان فهذا لك ولي أبقى... نحن نمشي إلى ساعة الصفر وحتّى آخر رمق، يجب أن نكابد ونحيا. أن ننعم بالحياة الدنيا. أن نكدح ونشقى، أن نبذل الجهد ولا نبالي بما تحمله الأيّام من عسر وشدّة...

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115