بمفهومها الوستفالى - فى إحالة الى معاهدة وستفاليا لسنة Le traité de Westphalie 1648 التي أرست معالم الدولة القومية Etat-nation - لازالت ثنائية الأمم الحاكمة / المحكومة، السيّدة / الخاضعة السّمة الرئيسية للعلاقات الدولية التى تحكمها منطق الهيمنة والاحتواء.. فالسّيادة بمعناها التوسعي والسّادي مٌعطى موضوعي رافق جميع الحقب التاريخية وطبع بعٌمق مختلف التنظيرات الجيوسياسية بدأ باستنباط مفهوم «المجال الحيوي» Lebensraum «لفريدريك راتزل» مرورا بنظريات «قلب العالم» Heartland للبريطاني «ألفرد ماكندر» «والهلال الداخلي» Rimland «لنيكولاس سبيكمان» وغيرها من المقاربات الجيوسياسية المعاصرة...
في المقابل، عندما وضعت الحرب العالمية أوزارها لم يتوقّع أحد حتى تلك الدول المنتصرة فى الحرب أنّ قوة ضاربة غير تقليدية، صاعدة فى طور التشكّل من داخل رحم وزارة الدفاع الأمريكية عبر مشروع Arpanet الشهير - سلف الانترنت - ستتمكّن انطلاقا من مطلع الألفية الجديدة من انتزاع مركز السيادة العالمي من الدول وتسليمها تدريجيا إلى مؤسسات عابرة للجغرافيا التقليدية.. شركات بحجم دول بصدد الانتقال بمركز ثقل العالم من الفضاء المادي الملموس إلى فضاء افتراضي أشد فاعلية واختراق للمجتمعات والأفراد كنت قد أطلقت عليه فى إحدى بحوثي Cyber land...
ومن الصدف المثيرة ان أسياد العالم الجدد GAFA/BATX/NATU ينقسمون إلى ثلاث مجموعات متساوية العدد (أربع مؤسسات للمجموعة الواحدة) :
- تتألّف مجموعة GAFA من المؤسّسات العملاقة التالية :Google-Apple-Facebook-Amazon
- نفس الشيء تقريبا ينطبق على نسختها الصينية BATX : Baidu-Alibaba-Tencent-Xiaomi
- أمّا المجموعة الثالثة NATU الصّاعدة التى لا يعي حتى بمجرّد وجودها الكثيرون مكوّنة من : Netflix-Airbnb-Tesla-Uber.. كما تٌشير العديد من الدّلائل أنه سيكون لهذه المجموعة موقعا أكبر فى المنظور القريب وفق معيارية «الإحساس بالزمن» Perception temporelle للتقويم الرقمى الذي كنت قد تناولته بالبحث فى مقالي السابق - فالسنة فى التقويم الرقمى تعادل «إدراكا» الشهر، والشهر يقارب اليوم، واليوم عبارة عن ساعة زمنية الخ - ...
بمفردات التأثير فى اقتصاديات الدول والتحكّم فى المجتمعات والأفراد، تتصدّر مجموعة GAFA دون أدنى شكّ طليعة الترتيب على مستوى عمالقة الواب فى العالم...
- «فغوغل» يحتلّ اليوم الرّيادة فى مجالات NBIC التي تتجه نحو إحداث تغييرات سريعة وعميقة قد تقلب المعادلة الكينونة البشرية رأسا على عقب فى المنظور القريب (موضوع المقال السابق)، ومحرّكات البحث فى العالم حيث يستأثر بقرابة 90 بالمائة من حجم تدفّقات البحث على الواب ينضاف لها مجموعة متميزة من الخدمات والمنصات ونظم التشغيل على غرار - etc. Google Maps - Android - Youtube – Gmail
وفق مؤشر رسملة السوق la capitalisation boursière تمكنت شركة غوغل عبر مجموعةAlphabet من احتلال صدارة الترتيب العالمي خلال هذه السنة.
- أما بخصوص شركة Apple Computer Inc فان تاريخ تأسيسها يعود الى سنة 1976 متخصصة أساسا فى مجالات صنع الحواسيب ونظم التشغيل والهواتف الذكية - موبايل IPhone 11 ونظام التشغيل IOS الشهير على وجه الخصوص - بمستوى من الرسملة المالية تجاوزت سقف البليون دولار خلال شهر سبتمر الماضي بفضل المبيعات القياسية التى حققها IPhone 11 .
- فى حين أن شركة الفايسبوك فإنها تٌشكل حقيقة الظاهرة الرقمية الأولى فى العالم من حيث التوجيه والتلاعب بسيكولوجيا الأفراد والجماعات (كنا قد تعرضنا لها بالتحليل والنقد فى أكثر من مقال) .. تأسست سنة 2004 فى قلب جامعة هارفارد الأمريكية ..تستقطب أكثر من 2 مليار مستخدم- ضحية عبر العالم .. تحقق أرباحا خيالية من خلال متاجرتها بمعطياتنا الشخصية .. تستثمر اليوم فى مجال الذكاء الاصطناعي بما ينذر بخطر وشيك فى ظل غياب كامل للاتيقا داخل هذه المؤسسة العنكبوتية.
- أما شركة Amazon عملاق التجارة الالكترونية فى العالم الى جانب شركة علي بابا الصينية ، فانه وجب التنويه بان Amazon تأسست سنة 1994 فى شكل محل متواضع لبيع الكتب عن بعد ليتحول في ما بعد الى أكبر متجر رقمي فى العالم بمستوى رسملة سوقية عالية بوأته احتلال المراتب الخمس الأولى فى العالم حسب بورصة NASDAQ خلال السنوات الأخيرة وبطاقة تشغيلية تعادل حوالي 650 ألف موظف بمختلف اختصاصاتهم.
ضمانا لنسق تطورها السريع اتبعت مجموعة GAFA استراتيجيات فاعلة ثلاثية الأبعاد:
- استراتيجية التجديد والابتكار - Une stratégie d’innovation - من خلال قيامها بشراء أصول العديد من المؤسسات الناشئة Startups التي من شأنها ان تٌشكّل خطرا عليها فى المنظور المتوسط والبعيد .
- استراتيجية تنويع منتجاتها وخدماتها - Une stratégie de diversification -عبر تقديم حزمة من الخدمات فى مجالات التراسل الفوري Messenger وبرمجيات تحديد الأماكن Google Maps والمشاهدة عبر البثّ الحي Youtube الخ وتموقعها فى العديد من القطاعات ذات العلاقة بمجال NBIC الرهيب.
- استراتيجية مالية - Une stratégie financière - ميكيافلية تتخفى خلف واجهة «المجانية الوهمية» فى حين إنها تتغذى من عائدات الإشهار الضخمة المتأتية بشكل رئيسي من بيع معطياتنا الشخصية على نحو غير مسبوق والتهرّب الضريبي الواسع النطاق عبر ترحيل أرباحها الخيالية الى العديد من الملاذات الضريبية ممّا أثار حفيظة الدول الأوربية الكبرى واتجاهها نحو فرض ضريبة عليها تحت مسمّى « La taxe GAFA » .
قبل غلق ملف مجموعة GAFA وفتح ملف المجموعة الصينية BATX فى الجزء الثانى من المقال، تقتضى الإشارة الى أن «غوغل» و»فايسبوك» تحصلا منذ انطلاقاتهما على تمويلات مباشرة من جهاز الاستخبارات الأمريكية وذلك فى إطار الإستراتيجية الرقمية للولايات المتحدة الأمريكية لمواجهة التحديات الجديدة للألفية الثالثة.
والفاهم يفهم !
يتبع