قهوة الأحد: أي دور للدولة أمام الثورات وغياب الأمل؟

تعتبر قضية دور الدولة في الاقتصاد من القضايا التي بدأت تأخذ بعدا أزليا في النظرية الاقتصادية والسياسات العامة .

فكلما خلنا أنفسنا قد قربنا من حل ومن الوصول الى توافق يجنبنا التجاذبات والصراعات والخلافات حول دور الدولة في الاقتصاد إلا وبرزت الخلافات من جديد وبأكثر حدة لتجعل من هذه المسالة أكثر المسائل المثيرة للجدل لا فقط في النظريات الاقتصادية بل كذلك في السياسات الاقتصادية .

ويعود هذا الجدل بأكثر قوة وحدة في النقاش العام على المستوى العالمي أمام تصاعد الثورات الاجتماعية وعدم الاستقرار السياسي والاجتماعي الذي يعيشه العالم .

لقد ساهمت العولمة والنظام الليبرالي الذي هيمن على السياسات الاقتصادية والاجتماعية منذ نهاية ثمانينات الماضي في تراجع دور الدولة وحشرها في دور الحد الأدنى والذي اقتصر على ضبط وتنظيم عمل النظام الرأسمالي بدون تدخل مباشر في العملية الاقتصادية وترك الدور الأساسي والأكبر للسوق او اليد الخفية حسب الاقتصادي الانقليزي آدام سميث (Adam Smith).

إلا أن هذه النظرة وهذا التصور عرف الكثير من النقد وحتى الرفض إثر الأزمة الاقتصادية العالمية لسنوات 2008 و2009 والتي كادت أن تدك أسس النظام العالمي .هذا النقد وعدم قدرة السوق على إدارة الأزمة المالية العالمية دفعت الحكومات إلى الاستنجاد بالدولة والعودة إلى السياسات الكينزية التي تدافع على تدخل الدولة من اجل الحفاظ على التوازن الاقتصادي وتفادي الأزمات التي تنتج عن فشل السوق في تنظيم العملية الاقتصادية في البلدان المتقدمة.

إلا أن هذا التغيير في الرؤية للدولة والعودة إلى مكانة إستراتيجية تتجاوز بكثير الدور التعديلي الذي حشرته فيها الاختيارات النيوليبرالية لم يدم طويلا ولم يصمد أمام هيمنة الثورة المحافظة لبداية الثمانينات والتي لازال تأثيرها قويا إلى حد الآن في صياغة السياسات العامة في البلدان وفي المؤسسات الدولية .
هكذا نجد أنفسنا اليوم أمام أزمة حقيقة ورؤية جديدة لدور الدولة في الاقتصاد وفي
المجتمع .فالبرغم من محاولات التفكير لإنتاج تصورات جديدة بقي دور الدولة يتأرجح بين نظرتين تجاوزهما الزمن وغير قادرتين على الإجابة على التحديات الجديدة والتحولات الكبيرة التي يعيشها العالم. فنجد من جهة النظرة النيوليبرالية والتي تقتصر على دولة الحد الأدنى والتي يقتصر دورها على السهر على حسن سير السوق وتعديل عمل الفاعلين الاقتصاديين دون التدخل المباشر في الاقتصاد . ومن جهة ثانية نجد الرؤية التي تدافع على التدخل المباشر والعميق للدولة والموروثة من النظرية الكينزية ومن تجارب دولة الرفاه اثر الحرب العالمية الثانية .

إلا أن هاتين النظرتين تبدوان غير قادرتين اليوم على التعاطي مع التحديات الكبرى التي تعيشها مجتمعات ما بعد الحداثة والمخاطر الكبرى التي تحيط بها ونذكر منها القضايا الاجتماعية والتطور المخيف للتفاوت الاجتماعي وقضايا المناخ والتحولات التكنولوجية حيث تبدو المجتمعات عاجزة عن صياغة البرامج والرؤى الحضارية للتعاطي مع هذه التحديات .

ويبدو هذا العجز عن الرد على التحولات الكبرى وصياغتها في برامج قادرة على دعم التعاون والتضامن بين الفئات الاجتماعية اكبر واهم في البلدان النامية وبصفة خاصة في البلدان العربية وفي مسار التحول الديمقراطي .

وأمام هذا العجز وأهمية التحولات الكبرى لابد لنا من صياغة بعض الملاحظات للخروج بقضية دور الدولة من حوار الصم بين النيوليبراليين والكينزيين التقليديين .

ولكن قبل الحديث عن التوجهات الجديدة لدور الدولة سنحاول الوقوف على أهم التطورات التي عرفها هذا الدور في العقود الأخيرة .وفي رأيي فقد شهد دور الدولة في الاقتصاد مرحلتين مهمتين :
مرحلة الدور الاستراتيجي والتدخل المهم للدولة اثر ازمة 1929 والى حدود نهاية سبعينات القرن الماضي ثم مرحلة أفول هذا الدور وتراجعه بصفة كبيرة لفائدة هيمنة السوق إلى حد أزمة 2008 و2009.

لقد شكلت الأزمة الاقتصادية الكبرى لسنة 1929نقطة تحول كبرى في تاريخ الرأسمالية وفي نظرة الاقتصاديين لسير وعمل الاقتصاد .وكانت هذه الأزمة وراء تراجع ثقة الاقتصاديين والمسؤولين السياسيين في قدرة السوق او اليد الخفية كما سماه الآباء المؤسسون للاقتصاد السياسي في المحافظة على استقرار النظام الرأسمالي وحسن سيره . فقد كادت هذه الأزمة أن تؤدي إلى انهيار النظام العالمي وسقوطه.

وكانت هذه الأزمة وراء تنامي الدعوات المنادية الى ضرورة التدخل في الاقتصاد وضبط المؤسسات القادرة على حمايته من التقلبات والهزات العنيفة التي قد تؤدي الى سقوطه. وسيكون الاقتصادي الانقليزي جون كينز john keynez من أهم الأصوات النقدية لنظرية السوق وسينادي بضرورة تدخل الدولة بطريقة مباشرة في الاقتصاد لضمان استقراره وحسن سيره ولتفادي الأزمات والهزات ومنذ ذلك الوقت سيبرز توافق نظري وسياسي سيثمن دور الدولة وينادي بضرورة تدخلها الحازم والشامل لضمان حسن سير وتوازن الاقتصاد الرأسمالي .

وسيعرف دور الدولة وتدخلها في النظام الاقتصادي تطورا كبيرا اثر نهاية الحرب العالمية الثانية لتكون الفاعل الأساسي في النظام الرأسمالي ولتلعب دورا أساسيا في العصر الذهبي الذي سيعرفه العالم في تلك السنوات .

ولن يقتصر دور الدولة على المجال الاقتصادي بل سيشمل عديد المجالات الأخرى ومن ضمنها بالأساس المجال الاجتماعي لتكون وراء دولة (Etat providence) التي ستعيد للنظام الرأسمالي مشروعيته بعد أزمة 1929 والحرب العالمية الثانية .

إلا أن هذا التوافق الكينزي والاشتراكي الديمقراطي حول دور الدولة وضرورة تدخلها لن يصمد أمام الأزمات الاقتصادية التي سيعرفها النظام الرأسمالي منذ بداية السبعينات .وستعرف البلدان المتقدمة والاقتصاد العالمي منذ هذه الفترة تراجعا كبيرا للنمو وصعودا للتضخم والبطالة وانهيار مؤسسات النظام المالي الموروثة من اتفاق بريتون وودز(BreThon woods) سنة 1944.

ستكون هذه الأزمات وراء نقد كبير موجه للدولة ولدورها الاقتصادي والاجتماعي .فستظهر عديد التحاليل والنظريات التي ستنقد بشدة آراء الاقتصادي الانقليزي كينز وستعود إلى الآراء النيولويبرالية لمدرسة شيكاغو ولأستاذها الاقتصادي ميلتون فريدمان لتؤكد على ضرورة الخروج من هيمنة الدولة والعودة إلى السوق أو اليد الخفية لتنظيم النظام الرأسمالي وحسن سيره .وستجد هذه الثورة المضادة في المجال الاقتصادي كما يسميها آباؤها في الثورة المحافظة لبداية الثمانينات أحسن حليف لها لتنقد بشدة دور الدولة وعدم فعاليتها وتأثيرها السلبي على حسن سير النظام الرأسمالي .

لقد ساهمت الثورة المحافظة والنقد الشديد الذي تم توجهيه لدور الدولة في ظهور توافق نيوليبرالي جديد منذ نهاية ثمانينات القرن الماضي سيعطي دورا أساسيا ومركزيا للسوق في تنظمي وتسيير النظام الرأسمالي . وسيقتصر هذا التوافق النيوليبرالية دور الدولة في دعم السوق ومحاولة تصحيح إخفاقاته . وسيقتصر دور الدولة في هذه الرؤية السائدة على المجال التعديلي في المؤسسات وصياغة القوانين من اجل حماية العدالة والقانون.

سيلعب هذا التوافق الجديد دورا أساسيا في السياسات النيوليبرالية التي ستتبعها اغلب البلدان وفي تراجع دور الدولة لصالح السوق وفي تحرير السياسات العمومية وفتح الأسواق مما سيساهم في تطوير العولمة وهيمنتها على الاقتصاد العالمي .

إلا أن هذا التوافق النيوليبرالي وسنوات العولمة السعيدة ستشهد بداية أفولها مع الأزمة المالية العالمية لسنوات 2008. و2009. فسيعرف المنحى النيوليبرالي تراجعا كبيرا وستعرف النظرة الكينزية والدولة عودة هامة في السياسات العامة في اغلب البلدان الرأسمالية . وستلعب الدول وتدخلها المباشر دورا مركزيا في إعادة دفع الاقتصاد وإنقاذ كبرى البنوك والمؤسسات الصناعية من خلال سياسات مالية ونقدية توسيعية .

إلا انه مع تجاوز الخط الأحمر وتراجع شبح الإفلاس عرفت النظريات الليبرالية عودتها إلى الواجهة وتصبح قضية الدولة ودورها في الاقتصاد والمجتمع سجينة خطاب وجدل عقيم بين مدافع عن دورها ورافض له .

ولابد لنا الخروج من هذا الجدل ومحاولة تحديد المهام الحديدة للدولة على ضوء التحولات الكبرى التي يعرفها العالم وبلداننا. وفي رأيي فإن للدولة اليوم أربع مهام أساسية ومركزية من اجل الخروج من الأزمات الكبرى التي يعيشها العالم وإعادة بريق الأمل .

ولا تقتصر هذه الأدوار الثلاثة في رأيي على البلدان المتقدمة بل تهم كذلك البلدان النامية وبصفة خاصة بلدان الثورات العربية .

المسالة الأولى تهم التصورات والبرامج والرؤى الإستراتيجية للمستقبل والتي تكون الدول قادرة على تحديدها وبنائها . ففي فترات الأزمات الكبرى تكون المجتمعات في حاجة الى رؤى وبرامج كبرى لا يمكن إنتاجها الا من خلال المؤسسات الاستشرافية والبحثية للدول .

المسالة الثانية تهم المسائل الاجتماعية وضرورة وضع حد للفوارق الاجتماعية والتفاوت .وهنا تكون الدولة صمام آمان وتمكن من إعادة بناء عقد اجتماعي قوامه التضامن
والتعاون .

المسالة الثالثة تهم القضايا الاقتصادية وضرورة دفع الاستثمار وفتح الآفاق أمام المؤسسات الاقتصادية وذلك بالتقليص من الاجراءات البيروقراطية والقيام بالإصلاحات الضرورية للتسريع بالاستثمار ودعم حركة التحول الهيكلي للاقتصاد .

أما المسالة الرابعة فتهم التحولات الكبرى كالتحول المناخي والتحول الرقمي والتي تتطلب تدخلا هاما للدولة من اجل التسريع ومسك هذه التحديات الكبرى .

تعيش مجتمعاتنا تحولات وتغيرات كبرى على عديد المستويات وفي جوانب متعددة .وهذه التحولات وراء التخوفات والجزع وحالة الإحباط التي تسيطر على عديد المجتمعات والتي كانت وراء صعود التيارات الشعبوية . وتتطلب في هذا الزمن القلق إعادة تجديد دور الدولة لتكون قادرة على إعادة صياغة العقد الاجتماعي وإعادة بناء الأمل .

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115