كواليس النات: «مرحى» بالتقويم الرقمي..وداعا للتقويم الميلادي !

منذ فجر التاريخ، عمدت جميع الحضارات دون استثناء فى استجابة منها للمتغيرات الاجتماعية والاقتصادية الى وضع تقويمات فلكية تٌنظّم حياتها

اليومية من زراعة أو للاحتفاء بأبرز الطّقوس الدينية على غرار الحضارة «المصرية القديمة» وحضارة «المايا» و«الحضارة السومرية»، إلا أنه حصل التغيير الجوهري فى مقاربة مفهوم التقويم فى اتجاه إضفاء طابع القداسة عليه فكانت البداية بفرض «التقويم الميلادي» على نطاق واسع بمبادرة من الرّاهب الأرمني «دنيسيوس الصغير» لتحذو حذوه في ما بعد القوة الجديدة القادمة من أعماق الصحراء العربية حيث بادر الخليفة «عمر بن الخطاب» بسنّ «تقويم هجري» خاصّ بالمسلمين...

بنفس منطق السيرورة التاريخية التى لا تعرف التوقّف، تشهد المجتمعات البشرية منذ منتصف القرن الماضي والى اليوم طفرات معرفية رقمية كبرى غير مسبوقة تشتغل على إعادة تشكيل كيمياء التفاعل داخل العديد من المجتمعات وصولا إلى تسجيل محاولات جدية لتغيير «الجينوم البشري» Génome humain من قبل عمالقة الواب Les géants du web -غوغل بشكل خاص- فى إشارة واضحة الى بداية تاريخ مختلف يٌكتب بفاعلين جدد يتقدمهم عمالقة الواب فى العالم من GAFA الأمريكية الى نسختها الصينية BATX، تدور من حولهما شركات تكنولوجية ناشئة les startups.. تاريخ مختلف بجميع المقاييس لم تعد تصمد قواعد الاستشراف الاستراتيجي المعتمدة على مجارات نسقه الضوئي.. لا مكان فيه للإنسان بإحداثيته البيولوجية والانثروبولوجية الحالية .

إنها ثورة NBIC الرّهيبة حجر زاوية التقويم الرقمي (مختصر للعبارات التالية Nanotechnologie-Biotechnologie-Intelligence artificielle-Sciences Cognitives ) التى لم تتفطن عدد من الأوساط الأكاديمية بحدوثها اعتقادا منها أننا لازلنا فى مرحلة سطوة «تكنولوجيا المعلومات والاتصال» TIC و«شبكات التواصل الاجتماعي» لا غير...

من بين الهواجس الفلسفية الكبرى التى تفرضها سطوة الرقمنة المتوحشة المعبّر عنها NBIC على جميع الأنشطة البشرية بمستوياتها الدنيا والعليا والوسيطة، نذكر على سبيل الذكر لا الحصر ما يلى :
- هل نحن بفعل ثورة NBIC بصدد الدخول إلى حقبة تاريخية مختلفة تماما عن سابقاتها أم انه بالإمكان اختزالها فى حدود ثورة صناعية رابعة تقع فى نفس خط التراكم المعرفي للبشرية ؟
- وان سلّمنا أنها تٌشكّل قطيعة عن هذا الخط التراكمي، فإلى أي مدى ستتمكّن من تغيير مركز الإنسان ككائن عاقل، سوبرماني ومحوري في هذا العالم ؟
- هل سيظل يٌنظر مطلع الألفية القادمة إلى الإنسان كإنسان وفق ثنائية آدم الدينية ونظرية التطور الداروينية ؟
- ألا يمكن الحديث بفعل «الانفجار الرقمى» الذي نعيش اليوم على وقع ارتداداته الأولى العنيفةdigital Big bang ان كلّ ما سبقه من أحداث تاريخية مثيرة وحاسمة تٌعدّ مرحلة «ما قبل التاريخ» ؟
- أليس من الوارد أن أجيال موفى هذه الألفية المتغيرة جينيا بفعل NBIC ستنظر إلينا ككائنات دنيا محدودة الذكاء فى طور الانقراض تستحق الشفقة والرثاء ؟

بداية القصة المثيرة فى إعادة إنتاج التاريخ بمفردات «الصفر/ واحد» .
وقانون «مور» الشهير Les lois de Moore وبحوث «هزنبيرغ» فى الفيزياء الكوانتية انطلقت منذ منتصف القرن الماضي بالولايات المتحدة الأمريكية حيث بدأ التداول العلمي الجدّي حول فرضية تصميم روبوات قادرة على محاكاة الإنسان ولما لا أن تتفوق عليه فى يوم من الأيام، في ذلك الوقت كان مجرد إثارة هذه المسألة على هذا النحو تٌعدّ مزحة ثقيلة لا يمكن تصديقها على الإطلاق إلى ان تمكّن الحاسوب المتطورDeep Blue لشركة IBM سنة 1997 من الحاق هزيمة نكراء بالبطل العالمي للعبة الشطرنجGarry Kasparov .

منذ تلك اللحظة بدأت يوتوبيا تفوّق الإنسان الآلي على مصمّمه الأصلي تتحوّل الى فرضية ممكنة التحقق من خلال تجدّد السّيناريو السابق سنة 2016 عندما انهزم بطل العالم فى لعبة Go Lee Sedo l Go فى مواجهة تطبيقة Alpha GO.

ما تحقّق فى هذه المواجهة/اللّعبة يعتبر ثورة عميقة فى ميدان «الذكاء الاصطناعي»، باعتبار أن تطبيقة Alpha GO لم تعتمد خوارزمياتها كما كان متوقع على مجرد قواعد بيانات بل على «خلايا عصبية اصطناعية» Neurones artificiels تشتغل وفق تقنية «التدرب العميق» Deep Learning .. كما تجمع أغلب البحوث فى هذا الشأن أن قوة NBIC تكمن أساسا فى التزامن النفعي Symbiose بين مختلف مكوناتها المعرفية وفى المزج بين العلم والتكنولوجيا وفق «مفهوم الالتقاء»Le concept de convergence .

خلافا لما يٌروّج هنا وهناك، من الأهمية بمكان الإشارة بأنّ مصدر قوّة «غوغل» الخفية والرهيبة فى المنظور المتوسّط والبعيد لا تتمثل فى استئثارها بنسبة 98 بالمائة من سوق تدفق المعلومات عبر «محركات البحث» فى العالم او تعميم تثبيت نظام «الاندرويد» الشهير على ما تبقّى من الهواتف الذكية المتداولة بل يكمن فى

مشروعها السرّي الذي يعمل تحت مسمّى Google X Lab ، المتخصّصة فى خزن «الجينات البشرية» ثم الاشتغال عليها «بتقنيات التّلاعب الجينى» المستحدثة عبر نسخ الخلايا العصبية للإنسان وإعادة نقلها وبرمجتها على الإنسان الآلي عبر طريقة « التدرب العميق» ممّا سيٌفرز فى حدود منتصف هذا القرن صنفان من الكائنات : 

- «إنسان معزّز» Homme augmenté يتمتع بقدرات عالية بفضل شرائح الكترونية متطورة منتشرة فى كامل جسده.
- «وربوت هجين» Robot hybride آلي الصنع بشري التفكير يتميّز بمعدّلات ذكاء تفوق بكثير الإنسان الحالي.
فى نفس السياق، عند سؤاله عن طبيعة أنشطة «غوغل» أجاب الجرّاح والمدير العام لإحدى الشركات المتخصصة فى البيوتكنولوجيا Laurent Alexandre بأنّ «نشاط غوغل الحقيقى لم يعد مقترن بالإعلامية كما نعتقد بل هي معنية اليوم بميدان الخلايا التكنولوجية»...
بالتأكيد، لن يٌغيّر «التقويم الرقمى» القواعد الفلكية التى استقرّ عليها العلم، فالسّنة ستظل تنقسم الى 12 عشر شهر والأرض ستستمر فى دورانها حول الشمس غير أنّ ما ينبغي التوقف عنده تكرارا ومرارا بالسؤال : ماذا اعددنا لأبنائنا وأجيالنا المقبلة لمواجهة هذه اللحظة التاريخية الرهيبة المرتقبة ؟ للأسف لا شيء سوى صراعات بائسة حول الهوية فى عالم قد يفقد الإنسان هويته الأصلية ككائن عاقل فوق جميع الكائنات !
ختاما، عندما سٌأل أحد المختصين فى الحفريات عن سرّ انقراض الديناصورات أجاب بمنتهى التهكّم :« Les dinosaures ont disparu faute de formation ».
• ملاحظة هامة : هذه الورقة البحثية ستٌنشر قريبا باللغتين الفرنسية والانكليزية فى عدد من المراكز البحثية في الخارج.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115