«ان نبض العالم حزين» او (l’ère du temps est triste) وبقيت هذه الجملة في ذاكرتي من كل هذا الحديث والقراءة /الوصية للوضع العالمي للفيلسوف الكبير حاضرة في مخيلتي وفي تفكيري وقراءتي للأوضاع العالمية .وفي رأيي فان هذا الحزن والكآبة والعبوس هي وراء الثورات التي تنطلق في كل الأمكنة في العالم في الأشهر والأسابيع الأخيرة .
تختلف هذه القراءة للفيسلوف ميشال سار عن القراءة التي قدمها مواطنه السينمائي الفرنسي كريس ماركار (Chris Markuer) في منتصف سبعينات القرن الماضي عندما أنتج فيلما سينمائيا سنة 1977 يعدّ من أهم الافلام في الذاكرة السينمائية العالمية بعنوان «le fond de l’air est rouge» او «نبض العالم احمر» ويتناول هذا الشريط السينمائي بالتحليل الوضع العالمي والتطورات التي تشهدها اغلب جهات العالم وتصاعد النفس الثوري اثر ثورات الشباب العالمية في نهاية الستينات . كان نبض العالم في تلك الأيام احمر وعرفت اغلب جهات العالم تصاعد النضالات والآمال من اجل تغيير ثوري والخروج من الاستغلال والتهميش وهيمنة الأفكار التقليدية والمحافظة .
إذن كانت الأجواء الحمراء والثورية وتصاعد النضالات في سبعينات القرن الماضي وراء تصاعد الثورات في مختلف أصقاع العالم . ولعل هذه الأجواء الثورية ووجود الأحزاب الثورية والقادة الثوريين الكاريزماتيين والأمل في قدرة الأحزاب على فتح أفق ثوري كانت وراء المد الثوري الذي عرفه العالم في تلك الفترة .
وإذا قارنا الوضع العالمي بالذي كان سائدا في تلك الفترة فان الاختلافات جوهرية وأساسية في عديد المجالات والميادين وبصفة خاصة المجال السياسي .فقد خفت بريق النظريات اليوم وتراجع تأثيرها .كما غابت التنظيمات الثورية وخفت لهيب وتأثير الباقية منها .أما القادة الثوريون فحدث ولا حرج حيث انتفت في مجالنا السياسي القيادات السياسية ذات التجربة والقدرة على ضبط وتحديد الاستراتيجيات السياسية وتعبئة الناس والجماهير العريضة حولها .ولكن الأهم في كل هذه العناصر وخصائص الوضع الحالي هو حالة الإحباط وغياب الثقة في المستقبل السائدة اليوم .
إلا انه وبالرغم من الاختلافات الجوهرية بين الفترتين فأنهما تلتقيان في عودة اللهيب الثوري لتوهجه وعنفوانه .
فعلى غرار سبعينات القرن الماضي يعيش العالم حالة من المد والثورات التي تهد أسس الأنظمة في عديد البلدان وفي عديد الجهات في العالم . وإذا كان الأمل في تغيير العالم نحو الأفضل وراء ثورات القرن الماضي فان المفارقة اليوم هي أن الحزن والكآبة كما أشار الى ذلك الفيلسوف الفرنسي ميشال سار هما وراء الثورات التي تشق العالم اليوم . فإذا كان الأمل قادرا على إنتاج الثورات فان السؤال المطروح هو كيف يمكن للحزن والكآبة وفقدان الأمل أن ينتجا ثورة.
سنحاول في هذه الأسطر إعطاء بعض الإجابات عن هذا التساؤل الأساسي حول قدرة غياب الأمل على خلق ثورات وعلى إعادة بناء الثقة في المستقبل .
لقد بدأت الثورات الجديدة اثر الأزمة الاقتصادية العالمية لسنة 2008 وكانت ثورات الربيع العربي في 2011 نقطة انطلاق هذه الحقبة الثورية الجديدة . انطلقت هذه الثورات في تونس منذ 2010 لتمتد الى بلدان الربيع العربي سنة 2011 ثم لتصل الى نيويورك (occupy Waal street) واسبانيا (Puerta del sol(2011)) في مدريد واليونان في ميدان syntagm في اثينا ثم حديقة قيزي Gezi في اسطنبول في تركيا سنة 2013 وميدان Maidam في كياف سنة 2014 ثم Nuit debout في ساحة الجمهورية في فرنسا سنة 2016. ولم تقف هذه الثورات عند هذا الحد بل تواصلت هذه الديناميكية لتشمل في السنوات عديد البلدان والمناطق الاخرى مثل الجزائر ،ولبنان والعراق والسودان وهونغ كونغ والشيلي .
وأشارت عديد الدراسات الى تنامي هذه الحركات الرافضة في الفترة الأخيرة فقد أكد تقرير المركز الوطني في فرنسا حول النزاعات السلمية الى أن الحركات الاجتماعية المطالبة بتحولات وتغييرات سياسية قد تضاعف بين تسعينات القرن الماضي والعشرية الأول للألفية .وقد أشار نفس هذا التقرير إلى أن عدد هذه التحركات خلال الفترة الممتدة بين 2010 و2015 قد تجاوز كل التحركات خلال العشرية الأولى للألفية .
عرف العالم تطورا كبيرا في التحركات الاجتماعية والنضالات والحركات الثورية خلال الأشهر والسنوات الفائتة . ويمكن أن نشير من خلال المتابعة اللصيقة لهذه الحركات أن لها الكثير من الخصوصيات المرتبطة بالمسار التاريخي لهذه المجتمعات .فالفتيل الذي كان وراء اشتعال هذه الثورات كان مختلفا من بلد إلى آخر . فكانت الزيادة في أسعار الوقود في فرنسا وراء انطلاق ثورة السترات الصفراء في فرنسا . كما كانت الزيادة في أسعار الركوب في الميترو وراء انطلاق الانتفاضات الشعبية في الشيلي.
أما لبنان فكانت الزيادة في أسعار احد الشبكات الاجتماعية الفتيل الذي أشعل الانتفاضة .
إلا انه وبالرغم من اختلافات الديناميكية والصيرورة التاريخية لأغلب هذه المجتمعات فإنها تلتقي في ثلاث مسائل أساسية . المسالة الأولى تهم الأسباب العميقة والدفينة لهذه الثورات وفي هذا الإطار لابد من التأكيد على ثلاثة أسباب أساسية تغذي فتيل هذه الثورات وتشعل لهيبها . المسالة الأولى تخص انغلاق النظام السياسي وتراجع الديمقراطية على المستوى العالمي .فالثورة في الجزائر تسعى إلى الحد من هيمنة المؤسسة العسكرية على النظام السياسي وتوسيع الديمقراطية والمشاركة السياسية .
وكذلك هو الشأن في لبنان حيث وضعت الحركة السياسية هدفا لثورتها إسقاط النظام الطائفي الذي لعب دورا كبيرا منذ الاستقلال في تقسيم المجتمع اللبناني وصعود المحسوبية والفساد. ونجد نفس الأسباب في مقاطعة هونغ كونغ حيث يرفض الشباب محاولات الهيمنة للحزب الشيوعي الصيني على المجال السياسي وتراجع في المبادئ الديمقراطية التي اعتادت عليها هذه المقاطعة منذ نهائية الحرب العالمية الثانية .
تراجع الديمقراطية وانغلاق الأنظمة السياسية ليسا فقط وليدي نظرة حسية ومتابعة لتطور الأوضاع السياسية بل أكدتها عديد الدراسات والتقارير الهامة .
ومن المؤسسات المهمة في العالم التي تتابع الوضع السياسي والحقوق السياسية والحريات العامة في العالم هي مؤسسة Freedom house والتي أشارت في تقريرها الأخير إلى أن الديمقراطية في تراجع خلال العشرية الأخيرة على المستوى العالمي .
إن تزايد الاستبداد وتراجع الديمقراطية ومحاولات الهيمنة وانغلاق الأنظمة السياسية تشكل احد الدوافع الأساسية لهذه الثورات الاجتماعية .
أما السبب الثاني الذي ساهم في تأجيج اللهب الثوري في عديد البلدان فهو الجانب الاجتماعي وتزايد التهميش الاجتماعي وغياب الأمل .لعب هذا الجانب دورا مهما في الحزن والكآبة التي لفت العالم بجناحيها .وكان في نفس الوقت وقودا ساهم في اشتعال هذه الثورات وتأجيج لهيبها.وتزايد الفوارق الاجتماعية لا يقتصر على بلد دون غيره فقد أشارت اغلب الدراسات إلى أن هذه الظاهرة ذات طابع عالمي وصاحبت العولمة في السنوات الأخيرة لتجعل من الهشاشة الاجتماعية والتهميش ظاهرة عالمية تعاني منها الطبقات الوسطى والفئات الشعبية في أمريكا الشمالية وأوروبا كما هو الشأن في عديد البلدان النامية .
اما الجانب الثالث والذي ساهم في تأجيج هذا اللهيب الثوري فيخص مسالة انغلاق النخب على نفسها وغطرستها ورفضها للانفتاح على الفئات الشعبية .وقد شكل هذا الرفض وولد الكثير من الاستياء والشعور بالاهانة من قبل الفئات الاجتماعية لتصبح المطالبة بالكرامة أحد المطالب الأساسية لهذه الحركات الاجتماعية .
بالرغم من اختلاف مساراتها التاريخية فان الثورات الجديدة تلتقي في الأسباب والعوامل الدفينة التي أشعلت لهيبها لتجعل من الديمقراطية والعدالة الاجتماعية والكرامة مطالبها وشعاراتها الأساسية .
أما نقطة الالتقاء الثانية بين هذه الثورات الاجتماعية فتعود إلى ديناميكيتها وصيرورتها .وهنا نشير إلى أن اغلب هذه الحركات تلتقي في طابعها السلمي ورفضها للعنف .كما يجب الإشارة الى الدور الأساسي الذي يقوم به الشباب والنسوة في هذه الثورات والطابع الاحتفالي الذي أعطوه لها .
يبقى السؤال الأساسي حول مستقبل هذه الثورات ليكون الغموض احد سماتها الأساسية . وهذا الغموض يعود في رأيي الى سببين أساسيين أولها حدة القمع الذي واجهت به الأنظمة هذه التحركات . وقد أشارت بعض التقارير إلى ان عدد الموتى وصل إلى 270 في مظاهرات بغداد و250 في السودان و20 في سانتياغو في الشيلي وخمسة في هونغ كونغ إلى جانب عدد كبير من الموقوفين وهذا القمع من شانه أن يؤدي إلى تراجع وتيرة هذا اللهيب الثوري . اما العامل الثاني الذي يفسر الغموض حول مستقبل هذه الثورات فيخص طابعها العفوي وغياب أحزاب وتنظيمات قوية في قيادتها قادرة على فتح آفاق تغيير ديمقراطي اجتماعي حقيقي .
لئن علمنا التاريخ أن فترات الأمل وحين يكون نبض الشارع احمر أو ثوريا هي التي تنتج الثورات والردة والتراجع هما وليدا فترات السقوط فإن الأوضاع الحالية تكذب هذه الدروس التاريخية .ففترات الحزن والاكتئاب تنتج كذلك ثورات وهزات من اجل الديمقراطية والعدالة الاجتماعية والكرامة .