حديث الفرد: «الشعب يريد».. ماذا يريد الشعب؟ من يدّعي حبّ الشعب ويتكلّم باسمه هو كذّاب، خبيث (4)

لدى السياسيين، يمينا ويسارا ولدى الكثير من الخلق، يحظى الشعب غالبا بالإجلال والتقدير. جلّ الناس تراهم يكبرون الشعب.

يقولون فيه ثناء كثيرا. في تونس، الكلّ يقول إنّ شعبنا، على خلاف الشعوب، هو شعب فطن، ذكيّ. له لباقة وفطنة. عارف بخفايا الأمور. ما من مرة استمعت فيها الى أحد المتكلّمين، وزيرا كان أو من العامّة، إلا و كان بالشعب مولعا، معجبا. الشعب هو ناصر البلاد وحامي حمى الدين. شعبنا عظيم. هو الحصن المنيع. هو الهواء الذي نتنفّسه. الى غير ذلك من الكلام البليد.
إن حصلت في البلاد فوضى وأتى الشعب خرقا وحرقا، لا يرى الناس ما فعل الشعب من خراب وسوء، بل تراهم يبرّرون الفعل بالزور، بالتاريخ وأحيانا بما جاء في النصّ وفي الحديث. تراهم يقولون إنّ ما حصل ليس من فعل الشعب بل أتى الفعل المشين أزلام النظام القديم أو هم مندسون، أو هم شباب هزّته حماسة وأكلتهم حميّة... الى غير ذلك من الكلام التعيس.
كل مرّة حصل فيها حرق للمدارس أو قطع للطريق أو تعدّ على مركز أمن أو أشياء من هذا القبيل إلا وردّد الكلّ أنّ شعبنا بريء، مذكّرين بما كان لشعبنا من كرم، من حضارة ضاربة في التاريخ... أما الغضب المفسد وإشعال النار في الأخضر وقطع الطرق وإفساد الأرض وضرب البوليس... فهذه ليست من فعل الشعب. هذه أتاها قلّة قليلة من الطائشين أو هم فعلوها بعد أن نفذ صبرهم وضاقت بهم السبل. شعبنا مجبر على ما فعل وقد قضّى العمر في معاناة وعرف ألوانا من الفقر ومن التهميش. «التهميش»، هذه الكلمة السحريّة التي ليس لها وجود ولا مدلول، تلقاها في كلّ مندبة وحديث وبها نتغنّى، نبرّر كلّ فساد مبين. في نظر الأحزاب والمنظّمات والإعلام، الشعب دوما محقّ وما أتاه له مبرّراته وفعله دوما مشروع...
كذب السياسيون وأهل المنظّمات والصحفيّون والناس التابعون. يعلم الكلّ أنّ هؤلاء ليسوا بأزلام ولا هم قلة طائشة ولا هم من المهمّشين بل هم أبناء هذا الشعب وقد شدّهم غلوّ وسكنتهم عنجهيّة وأعمى بصائرهم جهل بليغ. ما كان هؤلاء في ضنك ولا هم بالفقراء المعوزين ولا هم بالمهمّشين. هو الشعب وقد انتفض على كلّ حاكم ورقيب. هو الشعب لا يخاف أحدا ولا يحترم قانونا. يفعل ما يريد. هو الشعب في أجلى مظاهره وقد أظهرت الثورة ما يحمله من عورة، من ظلمة، من عفس على الدنيا وعلى الناس الآخرين...
° ° °
لماذا دوما نجلّ الشعب ونكبره؟ لماذا لا نرى ما هو يفعل من فساد، من خروق؟ لماذا لا نقول له كفى لمّا يتجاوز الحدّ ولمّا يمشي في سوء السبيل؟ من هو هذا الشعب الذي نخشاه ونجلّه؟ الشعب هو جمع شتات لبشر مختلف، ينتمون الى أرض محدّدة. يحتكمون لنفس القانون ولهم، مبدئيّا، نفس الحظوظ. الشعب هو جمع لأفراد وفئات مختلفين. لهم وطن وبعض القواسم المشتركة. هو جمع لناس مختلفين في الجنس، في العمر، في الرؤى، في المصالح. قد تختلف الرؤى بين الأفراد اختلافا جمّا. قد تتضارب المصالح بين الفئات تضاربا تامّا. قد يلتقي أحيانا النظر. غالبا، لا يلتقي النظر... الانسان اختلاف.
لا شيء في الشعب موحّد، ثابت، جامع. ما كانت مصالحه في تناغم، في تناسق، موحّدة المضمون. تشقّ الشعب تناقضات عدّة وبين الفئات والأجيال هناك صراعات وتصادم... في الثورة، صرخ المتظاهرون عاليّا شعارا واحدا: «الشعب يريد إسقاط النظام». والحقيقة أنّ الشعب لا يملك كلّه نفس الفهم للشعار المرفوع ولا هو يريد نفس المقصود. هناك اختلاف في ما أراده الشعب بشعاره، بمظاهراته. المفردات زئبق والرأي بناء وهدم متّصل. كذلك، تتشكّل الرؤى وتستنسخ حسب المصلحة وحسب الظروف. مصالح الفرد والجماعة متقلّبة وكذلك الظروف. ما كان للفرد ثوابت. فكر الانسان دائر، متغيّر، يمشي بين نقيض ونقيض...
° ° °
كلمة «شعب» إذا هي مصطلح عامّ، جامع. لا مدلول له محدّد. هو مصطلح إسفنج، يجمع أفرادا وفئات مختلفين. هو الوطن. هو المجتمع. هو القيم المشتركة وما كان من تاريخ... كذلك، جاء الاستعمال متباينا وترى كلّا يعتمد المصطلح حسب ذاته، حسب ما هو يتصيد... الكلّ تراه يتكلم باسم الشعب. يدّعي أنّه المدرك لمقاصده، المعبّر عن وجدانه. كلّ يقول إنّه حامي حمى الشعب، الضامن لعيشه الكريم... ويبقى السؤال: كيف لهؤلاء ضمان العيش الكريم للشعب والشعب فئات متباينة؟ لكلّ فئة مصالح وأدوات ومقاصد. لكلّ جماعة حاجيّات وأولويّات. كيف الجمع بين مصالح الناس وبين الناس اختلافات وتناقضات قائمة؟
كلّ هؤلاء المتكلّمين باسم الشعب، جلّهم سفهاء، كذّابون. كلّهم، جلّهم مخادعون، مناورون. لا أحد، في الحقيقة، يرعى مصالح الوطن. لا أحد، في الحقيقة، يسعى لتحقيق العيش الكريم للمواطنين. لا أحد يحبّ الشعب. كلّ يحبّ نفسه. كلّ هذا زيف وتملّق. غاية الناطقين باسم الشعب هو خدمة أنفسهم وضمان عيش رغد لهم ولذويهم. لا أكثر ولا أقلّ. أنا لا أثق في ما يقوله وما يفعله هؤلاء السياسيين. أكثر من ذلك. كلّ عبد، من اليمين أو من اليسار، من أهل الكفر أو من أهل الإيمان، أراه يتكلّم باسم الشعب، يدّعي حبّ الشعب، يتحدّث في عزّة الوطن وفي حماية الدين، أتبرّأ منه. أخشاه. أعلم أنّه يسعى للإيقاع بي. يريد بي وبالبلاد مكرا وشرّا... لا أحد، في الحقيقة،يحبّ الشعب. لا أحد يسعى لتحقيق العيش الكريم للمواطن. لا أحد يسعى لتحقيق المناعة للوطن... من ادّعى هذا فهو كذّاب، خبيث.

(يتبع)

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115