حديث الفرد: «الشعب يريد».. ماذا يريد الشعب؟ «الشعب يريد»... شعار زائف، لا يسمن (3)

«الشعب يريد»، هذا الشعار الذي أريد به باطل، لن ينفع البلاد ولن يصلح لها شأنا. هو شعار اختلق للدعاية، للإغراء.

هو زغردة في الأذان. دغدغة للعواطف. لن يصلح الشعار ما اعوجّ في الشعب من نظر ولن يرفع عنه ما كان من ظلمات وجهل. بالعكس، مثل هذه الدعوة سوف تعمّق ما هو يحمل من تواكل ومن تقاعس. سوف يدعّم ما سكن في الأنفس من خمول وبؤس. هو شعار يغري. يجدّد العهد مع ما انتشر من نرجسيّة مفرطة. يمنع المراجعة. يصدّ كلّ نقد...

الكلّ يعلم أنّ شعبنا متخلّف وأنّ في شعبنا أنانيّة وجهويّة وجهالة متمكّنة. الكلّ يعلم أنّنا أمّة فقيرة، فيها بطالة وعوز. لو سألنا الشعب: «ماذا يريد؟» لأجاب الشعب أنّه يرجو حياة هنيئة وعيشا رغدا. غاية التونسيّ اليوم تحقيق عيش كريم لا كدّ فيه ولا جهد. في الأخير، ما يرجوه الشعب هو الجنّة. جنّة الخلد وما فيها من حور وغلمان تنكح ومن خمر تحتسى و«فاكهة كثيرة لا مقطوفة ولا ممنوعة» تؤكل. كلّنا في الدنيا نحلم بالجنّة. أمّا الكدّ والمثابرة في الجهد، فهذه غائبة في الضمير الجمعيّ ولا تلقى لها ذكرا في الجنّة ولا أثرا. ما يريده الشعب هو الرخاء ثمّ الرخاء، دون سعي. أمّي رحمها الله وجعلها من أهل الجنّة، كانت دوما تدعو لي قائلة: «الله يعطيك الدار التي لم تبن والرزق الذي لم تسع». أليست هذه هي الجنّة؟

ذاك هو الشعار الذي يرفعه اليوم الرئيس وأنصاره. فهل في الأرض بشر قادر على توفير الجنّة؟ «الشعب يريد»، لو نظرنا، هو شعار مغشوش، زائف. هو كلام فارغ غايته التبريد على أنفس مرهقة. هو كلام عسليّ لتهدئة خواطر متعبة. هو أيضا دعوة للناس حتّى يطمئنّوا. سوف تعطيهم الدولة ما أرادوا من كرامة ورزق. سوف يكون للشعب ما يريد ويرضى...
•••
من كان رئيسا، لا يتعقّب القطيع، بل تلقاه أمامه يمشي. يحدّد الطريق الضامن للنجاح، الموصل الى المرعى. ليس من دور الرئيس تلبيّة الناس رغباتهم ولا اتباع هواهم. ليس من مهامّه تحقيق مآربهم. على الرئيس أن يسكن قصره ويدع الناس تفعل. عليه أن يترك شعبه يتدبّر، يسعى، يلقى الحلول بنفسه. ما كان الرئيس بربّ عليّ يرحم من في الأرض. يعطي للبطّالين شغلا وللمعوزين ماء وخبزا. ليس هو «بابا نوّال»، فوق ظهره كيسه مملوءا لعبا، يسقطها ليلا على أطفال قصّر. دور الرئيس حثّ الشعب على النهوض، على تحمّل الأعباء، على تحقيق غاياته بنفسه. تراه يسعى لاجتثاث ما كان في الشعب من تواكل، من سنن باليّة، من سلوكيّات فاسدة. تراه «يهوي على الجذوع بفأسه». يقاوم الجهل. يحثّ الناس على اعتماد العقل، على الأخذ بأدوات العصر، على الدخول في العولمة... في ما أرى، سوف يفشل الرئيس الجديد في المسعى. لأنّه لا يتبيّن المهامّ ولا هو مدرك لما هي الأولويّة. يعتقد الرئيس أنّه راعي الرعيّة. أنّه هارون الرشيد يتفقّد البيوت، يسهر على اليتيم والأرملة.

مع الرئيس الجديد، مع الشعبويّة العارمة، سوف نضيّع سنين أخرى في الغوغاء، في البهلوانية، في الشعارات الناسفة. سوف نتّبع الشعب خطاه والكلّ يعلم أنّ الشعب متعثّر الخطى، لا يحسن السير. طوال خمس سنين، سوف نغنّي للثورة مرّة ولفلسطين مرّات أخرى ونعيد في صخب ما جمعنا من مقولات لا تؤكل خبزا. كذلك سيستمرّ اللغو. كذلك، لن نخرج من الفقر. لن نصلح شأنا. لن نعدّ للغد أمرا. لا غد لمن سكنه الماضي وانقلب رأسه عقبا. سوف نظلّ نلوك الشعارات كلّما شدّنا بؤس. سوف نفشل في المسعى كما فشلنا في تحقيق أهداف الثورة.

فشلت الثورة لأنّنا اتبعنا ما يريده الشعب. لأنّنا لم نقاوم ما يحمله الشعب من عواطف، من نقائص، من أدران مختلفة. لبّينا ما دعا اليه الشارع وقلنا الشعب يريد وقد قام بثورة وأسقط حكما. من الواجب تحقيق مآربه. من الواجب توفير الشغل، تعويض «المناضلين»، دعم الخبز، ترسيم الناس في الشغل، تحسين الأجور، الى غير ذلك ممّا يريده الشعب من حاجات مختلفة...
•••
فشلت الثورة، لأنّنا أخطأنا المنهج ولم نتبيّن الأولويّات. فشلنا لأنّنا مشينا في سراديب مسدودة ودخلنا في متاهات لا تنفع... عوضا عن الكدّ والعمل، عوضا عن تأهيل التعليم وتجنّب الانفاق في ما لا ينفع، قضّينا السنين ونحن ننظر في ماهيّة الهويّة، في تعدّد الزوجات، في ختن البنات، في ما أتاه السلف، في الجهاد في سوريا، في عذاب القبر، في الجهر بالإفطار وجزاؤه في الدنيا، في القضايا التي لا حول لنا فيها ولا شأن... وبينما ترى العالم يرتقي، ينظر، يلقى الحلول، يحمي البيئة والمحيط، ظلّ التونسيّون في ظلمات الكهوف. ينظرون في جنس الملائكة، يسألون عمّا جاء في البخاري من تفاهات وسخافات مختلفة. عوضا عن دعم الجامعة والدفع بالتعليم، دعّمنا الجوامع وأعطينا للأيمّة مكانة وحظوة...

ما قمنا به ليس ثورة بل هو انقلاب على العقل، على الدنيا، على نور العلم. دفننا رؤوسنا في الرمل. أجّجنا المطلبيّة. أسّسنا للفوضى. نشرنا التواكل وأضفنا للجهل جهلا. لم نفعل شيئا يجدي. لم نغيّر أمرا. وأدنا الثورة. تونس اليوم مهدّدة...

الثورة الحقّ ليست في اتباع خطى الشعب وليست في تحقيق ما يريده ويرضاه. لا تكمن الثورة في ما يأتيه الحاكم من كلام معسول وما يوزّعه من قبلات ورحمة. الثورة الحقّ هي تلك التي تقوّم النظر. تغيّر الفهم. تجدّد القيم. تسعى الى مراجعة ما كان من فكر يسري ومن سبل متّبعة. الثورة هي نظر الى الغد. هي اذكاء لنور العقل. هي انهاض للأنفس. هي انضباط وكدّ. كلّ في موقعه يكدح. يتحمّل شأنه. يفكّر. ينظر الى الأفق الأعلى...

(يتبع)

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115