وهذه النقاشات والاهتمام بالمسائل الاقتصادية هو لعمري مسألة أساسية ومفصلية في بلادنا نظرا لخطورة الوضع الاقتصادي ولعمق الأزمة التي نمر بها منذ سنوات. وقد أثبتت هذه الأزمة فشل وعجز السياسات المتبعة في المجال الاقتصادي منذ الثورة مما يتطلب تحديد ووضع سياسات جديدة تقطع مع السياسات السائدة وتفتح الباب لتغيير جذري في هذا المجال.
وسيكون لنتائج الانتخابات تأثير كبير على النقاش في المجال الاقتصادي والبرامج والاختيارات الاقتصادية التي ستضعها وتصوغها الحكمة في هذا المجال. وقد عرفت هذه الانتخابات تراجع وهزيمة القوى الوسطية والحداثية والتي هيمنت على المجال السياسي في بلادنا منذ النصف الثاني للقرن التاسع عشر مع الحركة الاصلاحية ثم الحركة الوطنية الى دولة الاستقلال، كما عرفت هذه الانتخابات صعود عديد القوى الجديدة والقريبة -البعض منها- من الشعبوية والتي عجزت في الاستفادة من تردي الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية وفشل وعجز الحكومات السابقة في تحسينها وتحقيق المطالب الأساسية للثورة من شغل وحرية وكرامة وطنية.
ولئن كانت الاختيارات الاقتصادية الكبرى للقوى الوسطية معروفة وتدور حول الاستقرار الاقتصادي للتوازنات الكبرى وعودة النمو والتشغيل، فإن الأولويات الاقتصادية للقوى الجديدة يشوبها الكثير من الغموض ولم تتجاوز المبادئ العامة.
والسؤال الذي يطرح نفسه بحدة اليوم يخص المحتوى الاقتصادي لهذه الاتجاهات السياسية الجديدة وبصفة خاصة للشعبوية؟ ماهي أولوياتها في المجال الاقتصادي وماهي السياسات التي تعمل على تطبيقها؟
ماهي النتائج المحتملة لهذه السياسات والاختيارات؟
وقد حظيت الجوانب الفلسفية والسياسية للشعبوية بالكثير من الدراسة والنقد مما مكننا من فهم الدوافع والمرتكزات الدفينة لهذه القوى في رفضها للديمقراطية الليبيرالية - ويرفض الشعبويون خيانة النخب ويدعون الى العودة الى الشعب من أجل تحقيق مصالحه وأهدافه في التحرر والانعتاق - وتؤكد هذه القوى على عجز النخب الوسطية والديمقراطية عن تحقيق هذه المطالب وابتعادها عن الشعب واهتمامها بمصالحها الضيقة ومصالح كل النخب المعولمة.
ولئن نجد اليوم الكثير من البحوث والدراسات التي تهتم بالجوانب الفلسفية والسياسية للحركات الشعبوية فإن الجانب الاقتصادي بقي مجهولا وغير واضح المعلم - ونجد هنا وهناك بعض المقالات حول الاختيارات الكبرى للقوى الشعبوية في الميدان الاقتصادي وبصفة خاصة دفاعها عن الدولة الوطنية ورفضها للعولمة وفتح الحدود الاقتصادية للاستثمارات الاجنبية ولحركة التجارة العالمية - فأغلب هذه القوى تنخرط في رؤية للسيادة الوطنية في الميدان الاقتصادي تجاوزها الزمن وغير قادرة على الأخذ بعين الاعتبار للتطورات والتحركات الكبرى للنظام العالمي والتعقيدات الجديدة التي يعيشها.
لكن الاختيارات الاقتصادية للقوى الشعبوية تبقى غامضة ولم تحظ بما فيه الكفاية من التحليل والتمحيص - ويعود هذا النقص الى قلة تجارب وصول القوى الشعبوية للسلطة وتطبيقها لبرامج اقتصادية وفي هذا الاطار فإن أمريكا اللاتينية هي الجهة الوحيدة من العالم التي عرفت العديد من التجارب الشعبوية نذكر منها الحركة البيرونية Peronisme في الأرجنتين وتجربة الرئيس فارڤاس Vargas في البرازيل والعديد من التجارب الأخرى في البلدان الأخرى من القارة.
وفي هذا الاطار نطرح السؤال عن أبرز وأهم السمات لهذه السياسات التي تم تطبيقها في هذه البلدان لتحديد التوجهات الاقتصادية للحركات الشعبوية. ويعتبر أهم مرجع في هذا المجال البرنامج البحثي الذي أنجزه في بداية التسعينات أحد أهم مراكز البحث العلمي في الولايات المتحدة الأمريكية وهو المكتب الوطني للبحوث الاقتصادية أو National Bureau of Economic Research والمعروف في عالم الاقتصاديين بـNBER وقد أشرف على هذا المشروع البحثي اقتصاديان هامان وهما روديڤر دورنبوش Rudiger Dornbusch وسيبستيان ادوارد Sebastián Edwards وجمع عددا مهما من الاقتصاديين من كل بلدان أمريكا اللاتينية - وكان هدف هذا البرنامج البحثي مزيد فهم الاختيارات والتوجهات الكبرى للاتجاهات الشعبوية - وقد تم اصدار جملة الدراسات في كتاب مهم سنة 1992 ويعتبر إلى حد الآن المرجع الأساسي والرئيسي حول قضايا الشعبوية الاقتصادية - وقد صدر هذا الكتاب تحت عنوان «The Macroeconomics of Populism in Latin America» «الاقتصاد الكلي للشعبوية في أمريكا اللاتينية».
إن القراءة والاطلاع على هذا الكتاب مفيدة وهامة لسببين على الأقل - السبب الأول في علاقة بالوضع الاقتصادي الذي تمر به بلادنا وبالاختيارات الاقتصادية التي يمكن أن تضعها وتطبقها الحكومات القادمة، والسبب الثاني هو الجهد الذي قام به مؤلفو هذا الكتاب والمساهمون لتحديد الشعبوية الاقتصادية، وبالرغم من خصوصية المسارات الاقتصادية والسياسية في مختلف بلدان أمريكا اللاتينية، نجح هذا الكتاب في صياغة بداية إجابات على ثلاث قضايا أساسية وهي: تعريف الشعبوية الاقتصادية، تحديد سياساتها واختياراتها الاقتصادية ثم نتائجها وانعكاساتها.
في هذا الاطار يمكن تحديد الشعبوية الاقتصادية وبرنامجها الاقتصادي بأنه يسعى الى ضبط سياسة نمو قوية واندماجية تضع حدا للتهميش الاجتماعي والفقر بدون الأخذ بعين الاعتبار التوازنات الاقتصادية الكبرى وضرورات الاستقرار الاقتصادي.
وبالرغم من بعض الاختلافات التي تشقها فإن أغلب الاتجاهات الشعبوية تلتقي حول ضرورة محاربة الفقر والتهميش الاجتماعي وإعادة توزيع الثروة لصالح الفئات المهمشة والطبقات الشعبية، وتسعى هذه القوى الى تحديد برامج اجتماعية واقتصادية كبرى وطموحة مما يقربها من بعض الاتجاهات اليسارية أو المنظمات الاجتماعية، وتعمل هذه القوى على ضبط برنامج اجتماعي يهدف الى وضع حد للاحباط الذي يمس الفئات الشعبية من خلال دفع النمو الاقتصادي والتحول الاجتماعي والاقتصادي.
بعد هذا التحديد للشعبوية الاقتصادية وأهدافها العامة لابد من تعريف سياساتها الاقتصادية وبرامجها. تشير الدراسات والتجارب المقارنة أن وصول هذه القوى إلى السلطة يقع في ظروف يتميز بهشاشة وضعف النمو الاقتصادي وتزايد وتنامي الاحباط الاجتماعي نتيجة صعود البطالة والتهميش الاجتماعي والتفاوت وعدم المساواة، وأغلب هذه البلدان تنفذ برامج مع صندوق النقد الدولي والمؤسسات الدولية والتي تعطي الأولوية للاستقرار الاقتصادي وتثبيت التوازنات الكبرى مما ينتج عنه هشاشة وضعف النمو الاقتصادي وتزايد الاحباط الاجتماعي وضجر وكلل الطبقات الشعبية.
يشهد المجال السياسي في هذه الأوضاع تزايد الدعوات من أجل القطع مع السياسات الاقتصادية السائدة والتي عجزت عن تحسين الأوضاع الاقتصادية وخاصة الاجتماعية - وستجد هذه الدعوات آذانا صاغية عند الفئات الشعبية والمهمشة والتي ستمكن القوى الشعبوية من الوصول الى السلطة - وفي نفس الوقت فان هذه القوى سترفض الخنوع والاستسلام لاكراهات التوازنات الاقتصادية وستحد من أهميتها وتأثيرها على الديناميكية الاقتصادية.
ولابد من الاشارة الى أن الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية التي نحن بصددها قريبة جدا من الأوضاع التي تمر بها بلادنا ولها أوجه شبه كبيرة بالوضع لما بعد الانتخابات - فبلادنا تعيش مرحلة تتميز بالهشاشة والضعف الكبير للنمو الاقتصادي - كما أن بلادنا وقعّت اتفاقا مع صندوق النقد الدولي وتطبق سياساته والتي أعطت الأهمية الكبرى للاستقرار الاقتصادي مما انعكس سلبا على مستوى النمو، وفي نفس الوقت تنامى الاحباط من النتائج الهزيلة على المستوى الاجتماعي لتتتالى الدعوات من أجل القطع مع السياسات الاقتصادية السائدة وتحديد سياسات جديدة تهدف الى تحقيق أهداف الثورة.
في هذا الاطار العام تحدد القوى الشعبوية أهداف وأولويات سياساتها الاقتصادية حول ثلاث مسائل أساسية وهي: سياسة الدفع الاقتصادي وإعادة توزيع الثروة وإعادة هيكلة الاقتصاد الوطني، وتسعى هذه السياسات الى الرفع من الأجور الحقيقية ودفع النمو من خلال الاستثمارات العمومية والدفاع على العملة الوطنية والحدّ من التبادل
مع الخارج.
المسألة الثالثة تهم الانعكاسات والنتائج لهذه السياسات الاقتصادية من خلال تجارب عديد البلدان في أمريكا اللاتينية، وفي رأيي يمكن اختزال نتائج هذه التجارب في أربعة مراحل اقتصادية محددة.
المرحلة الأولى تخص تطبيق هذه السياسات الاقتصادية وتوجهها نحو دفع النمو، الترفيع في الأجور ودفع الاستثمار العمومي والتشغيل، ويقلل المسؤولون عن هذه السياسات في هذه الفترة من أهمية وتأثير التوازنات الكبرى على البرامج والديناميكية الاقتصادية، وتتمتع أغلب هذه البلدان في هذه المرحلة الأولى بهامش كبير نتيجة تراجع عجز المالية العمومية وميزان الدفوعات وتحسن احتياطي العملة، وتساهم هذه الأوضاع في تشجيع المسؤولين على المضي قدما في سياساتهم واختياراتهم الاقتصادية.
المرحلة الثانية تتميز بظهور الصعوبات الأولى نتيجة النمو السريع للطلب الداخلي، وسنشهد ظهور التضخم وارتفاع الأسعار وتراجع احتياطي العملة الأجنبية نتيجة تزايد الواردات ثم ارتفاع عجز المالية العمومية بفعل نمو الأجور والزيادة في مصاريف الدعم الاجتماعي.
المرحلة الثالثة هي مرحلة الانحراف الكبير لهذه السياسات، وسنشهد خلال هذه الفترة انفلات عجز المالية العمومية والتزايد السريع للتضخم، وستحاول الحكومة وضع حدّ لهذه الانحرافات من خلال التقليص في مصاريف الدعم والأجور.
وتدخل البلدان خلال هذه الفترة مرحلة الاضطرابات وعدم الاستقرار السياسي.
الفترة الرابعة هي مرحلة فشل الشعبوية الاقتصادية وسقوطها في بعض الأحيان بطرق عنيفة كالانقلابات العسكرية في أمريكا اللاتينية، وستشهد هذه المرحلة صعود أنظمة سياسية جديدة ستضع برامج تقشف قوية بدعم من صندوق النقد الدولي والمؤسسات المالية الدولية، وستكون هذه البرامج وراء تراجع المستوى الحقيقي للأجور والتي ستصبح أقل من المستوى الذي كانت عليه عند بداية تطبيق برامج الشعبوية الاقتصادية، ويساهم هذا الفشل في غلق باب الأمل الذي فتحته السنوات الأولى لهذه التجارب.
لقد عرفت أغلب البلدان التي عرفت صعود الشعبوية الاقتصادية وهيمنتها على السياسات الاقتصادية هذه المراحل - فقد حددت سياسات طموحة من أجل دفع الاقتصاد ودعمه وتلبية المطالب الاجتماعية للفئات الشعبية - إلا أن هذه السياسات تناست وتجاهلت التوازنات الاقتصادية الكبرى والتي أطلق عليها الرئيس السابق للولايات المتحدة الأمريكية وبطريقة استفزازية «إنه الاقتصاد أيها الأبله» - ولكن أغلب هذه السياسات عرفت فشلا ذريعا وانتهت هذه التجارب بسقوط هذه القوى بطريقة عنيفة عبر الانقلابات كما كان الشأن في عديد البلدان في أمريكا اللاتينية أو عن طريق الانتخابات.
هل يعني هذا التحليل عن مخاطر الشعبوية الاقتصادية عجزنا عن بناء سياسات قادرة على إعادة الأمل من خلال دفع النمو والاستثمار ووضع حدّ للتهميش الاجتماعي والتفاوت وأزمة العقد الاجتماعي لدولة الاستقلال والذي انفرطت حباته منذ سنوات. في رأيي فإن سياسات دفع الاقتصاد والاستثمار أساسية وضرورية للخروج من الأزمة الاقتصادية والاجتماعية الخانقة التي تعيشها بلادنا - إلا أن هذه السياسات يجب أن تأخذ بعين الاعتبار التوازنات الاقتصادية الكبرى وبرامج التغيير الاقتصادي من أجل وضع نمط تنمية جديد وإعادة بناء العقد الاجتماعي