الأشد تأثيرا والأوسع انتشارا فى العالم على الخط الانتخابي بشكل مباشر، لكن ما لم يكن متوقعا على الإطلاق درجة قوة وسطوة مستخدمي الفضاء الافتراضي - الفايسبوك واليوتيوب تحديدا - فى انتخاب ساكن قرطاج الجديد ،فى سابقة لم تألفها يوميات الانتخابات عموما التى من شانها فى الحد الأدنى ان تفتح شهية العديد من الشعوب مثلما حدث مباشرة بٌعيد 14 جانفى 2011، وفى العمق ان تٌغيّر البراديغم الانتخابي الديمقراطي المعهود - من حملات ميدانية وصناديق اقتراع وهيئات انتخابية مستقلة الخ - من ألفه الى يائه...
فان كان للرئيس «أوباما» الحظ كل الحظ فى توظيف أحد مؤسسي الفايسبوك لإدارة حملته الانتخابية سنة 2012 للوصول الى البيت الأبيض، وان كان فى خدمة الرئيس «ترامب» مؤسسة فى حجم «كامبريدج اناليتكا» للظفر بمنصب الرئيس سنة 2016 ، فان «كامبريدج اناليتكا» فى صيغتها التونسية لم تعتمد البتة على التوجيه الخوارزمي لقواعد البيانات بل على صناعة افتراضية محلية للرأي العام عبر استخدام ميكانيزمات فايسبوكية تبدو بسيطة لأول وهلة لكنها رهيبة فى مجال التواصل والاستقطاب والتوجيه المعروفة بالمجتمعات الافتراضية Les communautés et les groupes virtuels حيث نجح الشباب الطالبى المهمش الفاقد للأمل والفايسبوكى حتى النخاع في الاستفادة القصوى من هذه الفضاء من خلال اختراق المجموعات المغلقة والمفتوحة وإعادة تشكيلها وفق وصفة سحرية «الشعب يريد» فى تضاد وقطع كامل مع واقع مرير استمر لثماني سنوات عنوانه البائس « الأحزاب تريد»...
ما لم يفهمه قسم كبير من طبقتنا السياسية ونخبنا المثقفة ان عالم اليوم مختلف تماما عن الأمس القريب يٌصاغ حصرا بأرقام نظام العدّ الثنائي (0 أو 1) système binaire والمنظومات الذكية.. فالعالم الواقعي المحسوس الذي نتباهى بالسيطرة على مفرداته فى طريقه إلى الانغمار والاختفاء لفائدة عالم افتراضي بديل يٌعبّر عنه «بمجتمع الشبكة» société des réseaux عبره تشكّلت هوية ثقافية شبابية جديدة، الفايسبوك مكون رئيسي فيها، إذ أصبحت إمكانية التغيير السياسي والمجتمعي تٌصنع من بوابة العالم الافتراضي الفايسبوكى بامتياز ...
فى مواجهة واقع مأزوم تسوده ثقافة الغبن وعدم الاعتراف، فإن الشباب التونسى الحامل لجينات رقمية أثبتت وقعها المزلزل سنة 2011 ، قرّر مرة ثانية ان لا يرضى بالاستمرار فى لعب دور الكمبارس وأن لا يخضع مستقبلا لإملاءات واكراهات النسق، فوجد مرة ثانية فى عالم مجتمع الشبكة البيئة المثالية لإثبات وجوده كفاعل سياسي حاسم قادر على قلب جميع المعادلات مهما كانت درجة تعقيدها، وفى غضون ساعة فقط من توقيت غلق مكاتب الاقتراع وبإشارة نفير فايسبوكية واحدة تمكّن من قلب الطاولة الانتخابية على الجميع تجسيدا لمقولة «الشعب يريد»...
فمن مقولة « التشغيل استحقاق يا عصابة السرّاق « التى غمرت البوابات الافتراضية نهاية 2010، مرورا باستشعار جمعي بأن « الدولة فى خطر « التى عاشت على إيقاع صداها حشود اعتصام الرحيل، اليوم يٌعاد إطلاق مقولة «الشعب يريد» من منصة الفايسبوك الباليستية المثبتة فى كل بيت وزاوية ، أهدافها المعلنة والصريحة هذه المرة إعادة بناء العقد المجتمعي برمته من أسفل الى أعلى حيث يشكّل الفضاء الأزرق الفايسبوكى جمهوريته القوية وقلعته المحصّنة فى وجه أوليغارشيا نخبوية متحزبة مهووسة ببهرج السلطة ولا غير السلطة...
فالمجموعات الافتراضية التى أطلّت علينا عشية الانتخابات الرئاسية مدركة تمام الإدراك بأن الفايسبوك يمكن ان يتحوّل الى تجربة سياسية مكثفة للمسرحة وبناء التكتيكات والاستراتيجيات، فبادرت بالاشتغال وفق قاعدة تقسيم العمل التايلورية فيما بينها، فمنها من تكفّل بتقديم صورة مثالية ناصعة للأستاذ قيس سعيد كعنوان كبير ومتفرّد للطهورية والاستقامة السياسية فى بلد يمر بحالة سقوط قيمي رهيب، وأخرى تمكنت فى مرحلة أولى من اختراق مجموعات طالبية وأخرى نسوية شبابية مغلقة ومفتوحة تٌعدّ بمئات الآلاف تم العمل بشكل ممنهج على حشدها فى مرحلة ثانية خلف شخصية المرشح الرئاسي انذاك أستاذ القانون الدستوري قيس سعيد ساكن قرطاج الجديد.
من المفارقات الجديرة بالدرس والمثيرة للاستغراب فى نفس الوقت ان الرئيس قيس سعيد لم يكن له حساب او صفحة فايسبوكية خاصة به و لم يٌعرف عنه حتى مجرد الولع بعالم «مارك زوكربيرغ» الأزرق ومع ذلك فانه قدم الى الحكم ديمقراطيا مع تشديد حرف الدال على ظهر منصة الفايسبوك، مفارقة تطرح أكثر من نقطة استفهام منها :
- لماذا تم اختيار شخصية الرئيس قيس سعيد دون غيره من قبل هذه القوة الشبابية الضاربة من جيل 2.0 ؟
- ألا توجد الى هذا الحدّ شخصية شابة نظيفة فى البلاد يمكن المراهنة عليها فى السباق الرئاسي أم أن هناك أبواب خلفية علينا أن نعثر عليها لفهم ما جرى يوم 13 أكتوبر المنقضي ؟
فالمتفحّص الجيد لشخصية الرئيس ومشروع أنصاره يٌدرك تمام الإدراك انه الشخص المؤهل أكثر من غيره لنيل شرف الإسناد والدعم الجماهيري الشبابي على الشبكة للمسوغات التالية :
أولا : بمعايير القطع مع السائد الغارق فى البؤس الفكري المدقع والدعارة السياسيوية التى تخطت كل الفواصل والحدود فان الأستاذ قيس سعيد بما جٌبل عليه من استقامة وتعفف شكّل لحظة تاريخية فارقة وقارب نجاة قيمية لمجتمع بأسره...
ثانيا : صفته الأكاديمية كأستاذ للقانون الدستوري وكأحد أهم المرجعيات الدستورية فى البلاد من شأنها أن تضفى قدرا عاليا من المشروعية على أفكاره فى التبشير بالبناء الجديد ، فكيف يمكن التصديق للحظة بان أستاذا فى قيمته الأكاديمية الاعتبارية أن يتبنى أطروحات مخالفة للقوانين او لنواميس للدولة ؟
ثالثا : لم يعد خافيا على احد بان مشروع الرئيس وهوية الفريق المحيط به تلفها العديد من مناطق الظل وذلك فى تماه كامل مع هندسة المنظومة الفايسبوكية ذاتها التى تعتمد على آليات التشفير والتخفي...
فى مطلق الأحوال، مرة أخرى برهن العقل الجمعى التونسى – بغبائه وذكائه المفرط – عن تفرده فى التعاطي مع المفاهيم السياسية المألوفة فى التداول السلمي على السلطة فاستحدث آلية الرباعي الراعي للحوار فى أكبر أزمة سياسية عصفت بالبلاد، واليوم أعاد الكرّة من خلال التأسيس لجمهورية فايسبوكية بامتياز فى طريقها لتغيير قواعد اللعبة الانتخابية والسياسية فى العمق عبر مجتمع الشبكة، أحد أذرعتها الرئيسية والرهيبة «الاستفتاء الفايسبوكى» على مشاريع القوانين التى ستٌحال على رئيس الجمهورية مستقبلا للختم...
بجميع المقاييس، أن ما حدث فى الانتخابات الرئاسية سريالي بامتياز، انطلق مدويا من فضاء خلنا خطأ انه افتراضي لا يمت بصلة الى اليومي فى حين انه الأشد تأثير على حركة الحشود والأعنف فى إعادة كنس الحاضر بنفايته وحتى نفائسه ان وجدت.. ومن البلاهة بمكان التوهم للحظة أنه بالإمكان عزل الرئيس بين جدران قصر قرطاج، فالعناية الفايسبوكية الفائقة ستظل تٌحلّق من حوله معلنة عن ولادة أوّل جمهورية فايسبوك ديمقراطية شعبية مكتملة البناء من رئيس جمهورية ومحاكم تحقيق افتراضية تعرض على قارعتها جميع الملفات وأذرعها تنفيذية سيبرنية ضاربة.