يوميات ناخب (7) : الانتخابات والثورة وفوضى الحواس

رواية «فوضى الحواس أو «la confusion des sentiments» هي للكاتب النمساوي الكبير شتيفان زفايغ.وقد صدرت هذه الرواية وأعطت

عنوانها لكتاب جمع بعض الروايات القصيرة للكاتب سنة 1927. طبعا طالعت كذلك رواية «فوضى الحواس «للكاتبة الجزائرية الكبيرة أحلام مستغانمي والتي صدرت سنة 1997 وكسبت من ورائها شهرة كبيرة إلى جانب روايتاها الأخرى «كعابر سرير» و»ذاكرة الجسد» لتصبح احد أهم الروائيات العربيات .

لكن عند التفكير في الأوضاع السياسية الجديدة التي نعيشها اثر الدورة الأولى للانتخابات الرئاسية رحلت إلى فوضى الحواس لشتيفان زفايغ لسببين على الأقل.

السبب الأول هو شخصية الروائي النمساوي وتأثيرها على الفكر الأوروبي في سنوات ما قبل الحرب العالمية الثانية وصعود النازية والفاشية في أوروبا .

فشتيفان زفايغ كان شاهدا على السنوات الذهبية التي عرفتها فيينّا عاصمة النمسا في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين حيث كانت مقرا لأحد أهم الثورات الفكرية والإبداعية في العالم . فعرف عالم النفس تطورا كبيرا تحت تأثير العالم سيغمنوند فرويد. كما ساهم الاقتصادي النمساوي كارل منجور Carl Menger والذي درس علم الاقتصاد في جامعات فيينا في تطوير الاقتصاد والتحول الكبير الذي عرفه في بداية القرن العشرين والخروج من الاقتصاد السياسي للدخول في ما يعرف منذ ذلك الوقت بعلم الاقتصاد أو la science économique وكان الاقتصادي النمساوي احد الرواد الثلاثة لهذه الثورة الاقتصادية مع الفرنسي ليون فالراس (Léon Walras) والانقليزي ويليام ستانلي دوفنس (William Stanley Jevons) والتي ستعرف باسم المدرسة الحديثة أو

l’ecole néo-classique والتي ستسيطر على الفكر الاقتصادي وستكون وراء سياسات الاقتصادية الليبرالية على مدى عقود طويلة وستعرف فيينا كذلك حركة إبداعية كبيرة من خلال ظهور عدد كبير من الروائيين المجددين ومن أهمهم ارتير شنيزه (Arthur schritzella) والموسيقيين مثل ريشارد شتواوس Richard Strauss وقوستاف ماهلر Gustave Mahler والعديد من الرسامين المشهورين ولعل أهمهم ايغون شليه (Egon Schiele)

إذن عاش شيفان زفايغ هذه الفترة الذهبية لفيينا ونهاية الأنظمة الملكية التقليدية وظهور النظام الليبرالي وانتصار الحداثة الأوروبية وفلسفة الأنوار على الفكر التقليدي. عاش زفايغ هذه الثورة الفكرية والعلمية والإبداعية والتي ستلهمه أهم رواياته والتي بقيت إلى اليوم من أهم الروايات العالمية ومنها «لاعب الشطرنج» (le joueur d’échec) و«24 ساعة من حياة امراة » «24heures dans la vie d’une femme » وغيرها من الراويات . كان زفايغ شاهدا على صعود المجتمع الجديد والثورة الليبرالية التي ستشهدها لا فقط فيينّا بل كذلك كامل أوروبا. كما يرى كذلك انهيار هذا العالم وسقوط الحلم الليبرالي والديمقراطي والذي بدأ باندلاع الحرب العالمية الأولى ليتواصل مع الأزمة الاقتصادية العالمية والتي ستكون وراء ظهور الغول الفاشي وغروب المشروع الأوروبي أمام صعود النازية .

ستكون هزيمة الليبرالية وراء صدمة كبيرة عند شتيغان زفايغ واهم مفكري أوروبا . سيدون زفايغ هذا اليأس وهذه الخيبة الكبيرة في كتابه الأخير

«le Monde d’hier souvenir d’un européen» أو «عالم الأمس – ذكريات أوروبي « الذي سيكتبه في البرازيل أين لجأ هروبا من الكلاب النازية . إلا أن هذا اليأس وهذا الإحباط سيدفعانه إلى الانتحار في فيفري 1942. وتكمن في رأيي أهمية شتيغان زفايغ مقارنة بالروائيين الآخرين في غوصه في عالم السياسة وتحاليله وقراءاته المساندة للنظام الليبرالي . ولكن هذا الانتماء لأفكار الحداثة وهاته القناعة بأفكار التقدم والمسار التاريخي الذي فتحته الإنسانية منذ فترة الأنوار والثورات الأوروبية لتقودها نحو المجتمع الأفضل كان مشوبا بالكثير من القلق والخوف من هذا المسار .

وبالرغم من انتمائه للفكر الأوروبي السائد في بداية القرن العشرين والأفكار الليبرالية إلا انه لم يكن يشاطر المفكرين الأوروبيين تفاؤلهم بل كان كثير الخوف والتردد وفي بعض الأحيان فقدان الثقة في حركة التاريخ التي طالما دافع عنها فلاسفة الحداثة .

وعند تفكيرنا في الحالة التونسية فان آراء ومواقف شتيفان زفايغ لها الكثير من الفائدة وإننا لسنا بعيدين عن تحاليله للواقع الأوروبي في بداية القرن العشرين وموقفه المتفائل مع الكثير من الحذر أمام التطورات التي يعيشها المسار الديمقراطي في بلادنا .

إلى جانب أهمية شتيفان زفايغ الروائي والمفكر فإن السبب الثاني الذي جعلني استحضر رواية «فوضى الحواس» عند التفكير في الوضع السياسي الجديد الذي خلفته الانتخابات فيعود الى موضوعها وطريقة كتاباتها الروائية .وقصة الرواية هي عبارة عن ذكريات أستاذ جامعي والذي عاد إلى سنوات شبابه عند بلوغه سن الستين وعلاقته القوية مع احد أستاذته والذي فتح افاقه أمام الكثير من القضايا الفكرية . ونجح الجامعي الشاب في ربط علاقة مع أستاذه فيها الكثير من الصداقة والاحترام وحتى الحب وكانت هذه العلاقة وراء الكثير من الأحاسيس المتناقضة والمتعارضة في علاقة بالأوضاع السياسية والأوضاع الفكرية والعلاقة الشخصية بين الجامعي وأستاذه لتشكل حالة من فوضى الحواس تجعل صاحبها عاجزا عن تبيان طريقه رؤيته ومواقفه .

وفي رأينا يعيش اليوم اغلب التونسيين هذه الفوضى في الحواس وتضارب وتقاطع أحاسيسهم أمام النتائج التي وصلنا إليها اثر هذه الانتخابات . وتلتفي في هذه الأحاسيس الشعور بالنخوة والبهجة والفرح لأن بلادنا تمكنت من قطع خطوات هامة في ميدان التحول الديمقراطي لتبقى حالة خاصة وفريدة من نوعها في محيطنا العربي والإسلامي . فقد تمكنت بلادنا من تنظيم ثلاث محطات انتخابية كبرى في سنوات 2011 و2014 و2019 والتي بالرغم من الصعوبات وبعض النقائص التي شابتها اعترف الجميع بطابعها الديمقراطي وشفافيتها .

إلا انه وبالرغم من هذا الفخر والابتهاج فانه تتجاذبنا الكثير من الأحاسيس وشعور بالخوف والقلق بعد الإعلان عن نتائج الدور الأول للانتخابات الرئاسية وسقوط القوى السياسية التقليدية وظهور قوى سياسية جديدة لم تكن بارزة في المشهد السياسي في بلادنا .

وفي رأيي فإن مصادر القلق والخوف والفوضى من نتائج هذه الانتخابات ومن دخولنا في مرحلة جديدة من مسار التحول الديمقراطي تعود إلى الضبابية وعدم الوضوح التي تميز مواقف هذه القوى من أربع قضايا أساسية .

المسألة الأولى تخص مستقبل الدولة ومدنيتها والتي أثارت الكثير من المخاوف نظرا لعدم وضوح مواقف المترشحين للدور الثاني من الانتخابات – لعل ما يميز التجربة السياسية في بلادنا هو الطابع القوي للدولة وفي نفس الوقت مدنيتها .

وهذا المسار التاريخي للدولة التونسية ليس وليد سنوات الاستقلال بل هو نتيجة مخاض تاريخي انطلق مع الإصلاحات الكبرى في المنتصف الثاني للقرن التاسع عشر . وقد أعطت النخب الإصلاحية بقيادة خير الين واحمد ابن أبي ضياف وبالرغم من فشل مشروع تحديث الدولة التونسية مع دخول الاستعمار الأسس والركائز للمشروع السياسي التونسي . وقد جعل هذا المشروع من الدولة الحديثة والمدنية أساس الفكر والتجربة السياسية في بلادنا .

وستواصل هذا المشروع مع الحركة الوطنية التي ستتبنى مركزية الدولة في برنامجها المدني والحديث بالرغم من هيمنة الفكر التقليدي في بداية القرن العشرين . وسيكون هذا المشروع ركيزة البرنامج السياسي لما بعد الاستقلال حيث سيكون بناء الدولة الحديثة والمدنية الهدف المركزي للنخب الجديدة وللسلطة المابعد كولونيالية .

عرف طبعا هذا المشروع بعض الانحرافات اثر السنوات الأولى للاستقلال . فقد غلب الطابع القوي للدولة والتي ارتبطت بالحزب الواحد مما ساهم في تهميش الأصوات المخالفة وصعود الاستبداد وتراجع الهامش الديمقراطي والتعددي. إلا أن دولة الاستقلال نجحت في بناء مشروعيتها من خلال بناء عقد اجتماعي شكل قارب الخروج من المجتمع التقليدي الجديدة .

وقد ساهم هذا المسار التاريخي الطويل بالرغم من بعض الهنات في بناء مشروعية الدولة الحديثة في بلادنا والعلاقة القوية التي بنتها مع المجتمع . إلا أن هذه العلاقة شهدت بعض الاهتزاز مع تصاعد الاستبداد ونمو الفساد والمحسوبية مما ساهم في تراجع مشروعيتها وإذعان الناس لسلطتها وهيمنتها . وسيتواصل تراجع الدولة ومؤسساتها اثر الثورة حيث ستتقلص قدرتها على تطبيق القانون وفوضى احترام سلطتها مع تصاعد تأثير اللوبيات والمصالح الخاصة .

ولعل هذا الضعف المتواصل للدولة منذ سنوات كان وراء هذه الفوضى للحواس وهذا القلق والخوف من المستقبل باعتباره شكل الفاعل الحامي والذي التجأ اليه الفرد والفئات الاجتماعية الضعيفة ليجدوا فيه الدعم والسند الضروري لتجاوز الأزمات . وتتواصل المخاوف اثر هذه الانتخابات لأن الواضح أن المترشحين للدور الثاني لن يعملا على إعادة بناء الدولة ودعم دورها الحامي والمدافع على تماسك المجتمع ووحدته من خلال إعادة بناء العقد الاجتماعي .

اما المسالة الثانية التي تفسر هذا الفيض الغامر من الفوضى في الحواس والخوف والقلق فيعود إلى المصير الغامض للمشروع المجتمعي في بلادنا . وهذا المشروع يهم عديد المسائل الأساسية والتي تشكل القاعدة الأساسية للروابط الاجتماعية ولمشروع العيش المشترك . ومن ضمن هذه المبادئ نذكر الطابع المدني للعلاقات الاجتماعية والفضاء العام . فقد نجحنا على خلاف عديد البلدان الأخرى في استبعاد العنف والعسكرة من الفضاء العام لنحافظ على جانبه المدني وعلى علوية القانون والمؤسسات المدنية في حل الصراعات وفك الخلافات . كما أن هذا المشروع المجتمعي يضم كذلك الرؤية الجمعية للدين وموقعه في المجتمع . وقد سادت في بلادنا نظرة منفتحة للدين ترفض المغالاة وتنبذ كل أشكال العنف التي اتخذت من الدين ذريعتها . كما أن الدين تراجع وجوده في الفضاء العام ليقتصر هذا التواجد بصفة رئيسية على الفضاء الخاص .

كما يمكن أن نضيف مسالة هامة ومكونا أساسيا لمشروعنا المجتمعي ويخص الموقف من المرأة والتوافق التاريخي الذي ميز النخب التونسية والداعم لفكرة المساواة بين الرجل والمرأة . وانطلقت هذه الفكرة مع الحركة الإصلاحية التونسية في منتصف القرن التاسع عشر لتجدد تدعيمها مع أفكار الطاهر الحداد وآراء النخبة التونسية ثم لتأخذ طريقها نحو المجال السياسي لتصبح احد مطالب الحركة الوطنية ثم احد أسس دولة الاستقلال من خلال سن العديد من القوانين لعل من أهمها مجلة الأحوال الشخصية . وقد تواصل هذا الدعم لمسالة المساواة من خلال تقديم الرئيس الراحل السيد الباجي قائد السبسي لمقترح المساواة في الميراث .

وفي الحديث عن المشروع المجتمعي لا يمكن أن ننسى رؤيتنا للآخر والتي تميزت لأسباب تاريخية وجغرافية بالانفتاح و الاهتمام والاستعداد للتبادل والتعايش .

إذن شكلت مبادئ المدنية ونبذ العنف والرؤية المتفتحة للدين والمساواة بين الرجل والمرأة والانفتاح والتعايش مع الآخر ركائز المشروع المجتمعي في بلادنا وشكلت إحدى عوامل خصوصية تجربتنا السياسية . وقد شهدت هذه المبادئ الكثير من الاهتزاز والتراجع في السنوات الأخيرة مع ظهور الإرهاب وتحرر مخزون العنف وتصاعد الهرسلة ضد المرأة وظهور العديد من الآراء الرافضة للأخر والمنادية بالتقوقع على أنفسنا وتنامي الحركات الجهادية التي عملت على وضع الدين في صلب الفضاء العام .

شكلت هذه الظواهر ضربة للنمط المجتمعي وكانت وراء ظهور الكثير من الخوف والقلق من اضمحلالها . وقد تمنى الكثيرون من هذه الانتخابات ان تساعد في ظهور نخب جديدة تكون قادرة عل إعادة بناء هذا النمط وحمايته من الهزات .

إلا أن هذه النتائج زادت من المخاوف ومن القلق على المصير الغامض لنمطنا المجتمعي .

المسالة الثالثة التي تثير الكثير من المخاوف تهم علاقة الدولة بالاقتصاد وبصفة خاصة بالمجموعات الاقتصادية ورجال الأعمال . لقد حافظت الدولة منذ السنوات الأولى للاستقلال على الكثير من الاستقلالية في علاقتها بالاقتصاد لتكون الحكم الداعم للنمو الاقتصادي ولكن البعيد في نفس الوقت على تأثيرات اللوبيات الاقتصادية

إلا أن هذه المسافة التي حافظت عليها الدولة اهتزت منذ بداية الألفية مع صعود تأثيرات العائلات القريبة من السلطة لتشهد بلادنا نمو الفساد والمحسوبية.

وقد لعبت هذه التطورات دورا أساسيا في تراجع مشروعية الدولة وهيبتها وحيادها أمام المصالح الاقتصادية الكبرى في بلادنا . وقد تواصلت هذه التطورات بعد الثورة لتصبح السلطة هدف المجموعات الاقتصادية واالوبيات التي تسعى للسيطرة عليها لخدمة مصالحها وامتيازاتها .

وقد زادت نتائج الدورة الاولى للانتخابات الرئاسية من مخاوف هذا الالتقاء والتأثير على استقلالية الدولة ودورها التحكيمي أمام كل الفئات والقوى المنتفضة.

لقد كانت نتائج الانتخابات الرئاسية أمام تنامي فوضى الحواس وقلق كبير وتخوفات على مستقبل عملية التحول الديمقراطي في بلادنا مصدرها الخوف من انخرام الدولة المدنية والتراجع عن مشروعنا المجتمعي وتضارب المصالح وتواطئها بين رجالات المال والأعمال ومؤسسات السلطة .

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115