هل نحن في حاجة للخطب المنبرية؟

بقلم: حسن أحمد جغام
ظهر الأيمّة على المنابر في بداية نشر الدعوة الإسلامية، لتعليم القرآن وتفسيره والحديث، إذ لم يكن في ذلك

العصر من سبيل لتعليم الناس تلك العلوم غير هؤلاء الأيّمة، فكان ذلك أمرًا طبيعيًّا وضروريًّا لتعليم الناس ما شُرّع لهم...

وقد استمرّ الأمر على هذا النحو طيلة العصور الإسلاميّة المختلفة، ولكن الانحراف كان يطغى على المضمون.

ومن سُنَّةِ التغيير كما يقع في جميع المجالات، أصبحت هذه الخطب توظّف لسياسة كل مذهب أو فرقة في قبضتها الحكم، فكانت تهيمن على عقول الناس، كما تشاء، سيما وأن القوم في عمومهم أميّون...

لقد عملت هذا الخطب على تكريس العداوة والخصام، خاصة بين الفرق السنيّة والفرق الشيعيّة فظلّت الخلافات قائمة ومستمرّة إلى يومنا هذا، وفي كثير من الأحيان كان الخلاف قائما بين المذاهب في الفرقة الواحدة...

وعلى سبيل المثال، ما وقع في تاريخ هذا الصراع الذي غذّته المنابر في مساجد القاهرة أيّام الدولة الفاطميّة، كان الخطيب يوم الجمعة يدعو المصلّين بأن يلعنوا «الشيخين» -أبي بكر وعمر- بعد صلاتهم من ضمن الدعاء..

وهناك وقائع أكثر غرابة تكاد لا تصدّق من الحث على العنف والتحريض على الفتن، نادى بها الأيّمة من المنابر، فغذّوا الضغينة والكراهية بين المسلمين، وممّا لا شكّ فيه ان بعض الأيمّة هم جزء لا يتجزأ من مشكلة العنف الذي عرف بالإرهاب الذي تجابهه الإنسانية منذ عصور قديمة وإلى عصرنا هذا..

نعم حتى يومنا هذا لازلنا نلاحظ هؤلاء الأيمّة وهم يخرجون في خطابهم من سياق الوعظ والإرشاد إلى سياق يتضمّن عبارات التطرّف والتحريض على العنف، وأحيانا على الشذوذ مثل ما سمعنا من دعيّ مصري وهو يدعو التونسيين لختان البنات!.. وهو يجهل أنه من فعل الوثنيّة القديمة ويجهل تفسير الآية الكريمة: «ولآمرّنهم فليغيرنّ خلق الله»(1) قال ابن عباس، إنّه: الخصاء والختان. وقوله تعالى: «خلقنا الإنسان في أحسن تقويم»(2)

والحقيقة أنّ خطاب هؤلاء الأيمّة في عمومه وفي أفضل الأحوال ساذج لا يرتقي إلى مستوى حياة العصر، وهو عادة ما يكون مختزلا في عبارات الحلال والحرام.

هذا إذا كان الإمام عند حسن النيّة، وليست في خطابه خلفيّة مغرضة، كالتحريض على العصيان، والتمرّد مثل ما حدث في كثير من الحالات في السنوات القليلة الماضية.. وهو ما أنشأ إفرازات سلبيّة منها ظاهرة وجود عدد مهول من الشباب الذين غرّر بهم ودُفع بهم وقودًا للنار المشتعلة في سوريا..

وسمعت نائبة في مجلس النواب تدافع عن إمام أعفي من خطبة الجمعة في مسجد. وسمعت بعض النائبات المتحجبات يحتججنّ على وزير الشؤون الدينية، ويتهمنه بطمس المعالم الإسلاميّة، وكادوا يبكون على الإسلام الذي أصبح غريبا في بلادهن، حسب قول إحداهنّ. وكان أحد النواب يطالب الدولة بسياسة تعميم الكتاتيب، ويطالب بإنشاء معاهد دينيّة لتنمية معارف أبنائنا، ونائب آخر يطالب بالرفع من ميزانية وزارة الشؤون الدينية، ونائب آخر يطالب بمنع تدخّل الحكومة في وزارة الشؤون الدينية..

وكانت هذه المداولات مع وزير الشؤون الثقافية، مباشرة بعد المداولات مع وزير الشؤون الدينية.

وكانت هذه الدعوات في الوقت الذي لازال بعض الأيمّة يواصلون خطابهم المتطرّف، تدعمهم شبكة من عشرات القنوات الفضائية العالميّة التي تعمل 24/24 ساعة، وهو ما جعل أصواتهم عالية.

قلت إذا كان دور الإمام في العهد الإسلامي الأوّل، ضروريا باعتبار أنه المصدر الوحيد لتعليم الناس.. أمّا اليوم ونحن نعيش في عصر العلم بتعدد المصادر والوسائل التعليمية والتثقيفية، من معاهد ونواد وإذاعات وقنوات وصحافة، وغير ذلك من وسائل الاتّصال والإعلام في داخل بيوتنا وخارجها.. أمام هذا الكمّ الهائل من منابع المعرفة بمختلف مضامينها بما في ذلك الثقافة الدينية، يطلبها من يشاء في أي وقت يشاء، وبالتالي فهذه الإمكانيات العديدة، قادرة وصالحة لتعويض دروس المنابر...

في هذه البيئة العلمية والحضارية يصبح دور خطيب الجمعة غير ضروري حتى في ظروف عادية.. أما في الظروف التي نعيشها من ريبة وخوف، وخاصة حين نعلم أنّه كثيرا ما تسرّبت إلى هذه المنابر عناصر شرّ وجهل، وجب علينا الإحتياط الشديد –خاصة- ممن يتستّرون بالدين، ويحسبون أنفسهم حماته وهم يدفعون بشعوبهم إلى التهلكة..

وممّا يجدر ذكره أنّه قد سبق في عهد إسماعيل باشا حين اعتلى عرش مصر (1863 - 1873) أن اعتمد على إنتاج المطبعة، بدلاً من الاعتماد على واعظ القرية، لتثقيف الرأي العام(1)..

كنتُ ذات مرّة أستمع – بالصدفة – لواعظ، أو لعلّه إمام خطيب في الإذاعة الوطنية(2)، يعطي دروسا عن الوضوء، ومن خلال صوته الناعم يبدو أنّه شاب، لفت انتباهي، فأبديتُ اهتمامي لما يقول عن الوضوء، كفرض، وعن الوضوء كسنّة، مثل مسح اليدين إلى المرفق وما إلى ذلك.. وطال حديثُهُ بتفاصيل دقيقة، لم أكن أعلم ببعضها من قبل مثل قوله إذا لم يكن هناك حوض للاغتسال، وكان عوضه «صطل» فهل يوضع على اليمين أم على شمال المتوضي. ويبدو أنّ هذه المسألة كانت من سؤال تلقاه الخطيب من مواطن. ثم تحدث عن «سواك» الفم، وكنت أظنّ أنّ السواك هو ذلك اللحاء النباتي الخاص بتلميع الأسنان، وكنت أعرف أنّ والدتي كانت تستعمله. ولكن السيد الواعظ يقول: السواك هو أن تضع إصبعيك الإثنين في فمك وتدلّك بهما الأسنان، لا أجادله في هذه المسألة، فقد يكون كلامه مستندًا على معلومة فقهيّة، أو ربما لم أفهمه جيدا في مسألة «السواك».

ولكن الأهم من كل ما سبق من كلامه عن الوضوء وغسل الفمّ والأسنان، لست أدري هل الذين يستمعون لمثل هذه الدروس سواءً عن طريق الإذاعة أو الذين يستمعون إليه مباشرة في الجوامع كخطب منبرية، لا يعرفون كيف يغتسلون، وقد أصبحت لنا في هذا العصر من وسائل تنظيف خاصة، والفرشات ومعجون الأسنان الذي منه ما يزيل الرائحة الكريهة من الفمّ، وهناك معجون أسنان ما يقتل الجراثيم، وما إلى ذلك من وسائل أصبحت متوفّرة...

شاءت الصدف وأنا أكتب هذه الخواطر أن أشاهد في إحدى القنوات التلفزية التي تختصّ ببثّ الفكر الديني إماما يلقي موعظة دينية، فأعطيته كل إهتمامي آملا في الإستفادة بشيء من درسه كمسلم، وقد طال درسه إلى نحو ساعة وهو من حين لآخر يأتي بآية قرآنية أو حديث نبوي، ليدعّم فكرته.

أردت من ذلك أن أستخلص عبرة، وأنا أحاول أن أتجرّد من حكمي عن بساطة الدرس وأتجاهل الاجترار الذي ظلّ يتكرّر منذ قرون بنفس العبارات. مع رأي في دعم تعمّقه في فكرة بذاتها..

من أقواله وهو يخطب بحماس في لهجته وفي حركات يديه الاثنتين، كأنه يجادل خصما عنيدا، وهو يصف النار في جهنم.. يقول: .. «هل ترى كيف تضع أصبعك على شمعة، كيف تكون الآلام التي تصيب إصبعك؟ فأعلم أنّ نار جهنم أقوى من نار الشمعة في الدنيا، آلاف المرات»، ويأتي بآية قرآنية تصف عذاب الكفار في الجحيم.. ثمّ ينتقل إلى أهل الجنة وكيف ينعمون بنعيمها يتمتعون بخيراتها من كذا ... وكذا ... وكذا ... وقد حرمها الله على .. مَنْ ؟ على الكافرين.. من هم الكافرون؟ هم الذين عن صلاتهم ساهون... إلخ... قلت كانت خطبته نحو ساعة.. وأنا أتابع حديثه باهتمام بالغ، ولم أتركه إلاّ بعد أن ترك حصّته..

ثمّ أردت أن أقيم ما حصدته في هذا الوقت الثمين من فائدة، فوجدت خطبته تتلخص في عنصرين إثنين: الترغيب، والترهيب، وبنفس العبارات والمعاني التي تغري الطامع في الجنة من نعيم، وتخيف من لا يقيم الصلاة والزكاة من عذاب جهنّم، وهو يصف العذاب الذي يستمر دون إنقطاع، حتى أن الجسد حين تأكله النار يتجدد مرة أخرى ليستمرّ التعذيب.. لذلك قال: «إنّ الله شديد العقاب»..

حين نقول إن مثل هذا الخطاب في القرن الحادي والعشرين، خطاب فيه الكثير من السذاجة، لأنّ كل هذه الأمثال من الترهيب والترغيب، لوعظ المؤمن بأن لا يسرق ولا يكذب ولا يفعل كل ما يُوصف بالشرّ والعدوان..

إنّ لغة المبالغة التي يستعملها أيمّة الجوامع في خطبهم المنبرية، وكذلك تأثير الكتب ذات الأوراق الصفراء، كالإسراء والمعراج، وعذاب القبر، والكبائر، وأمثال هذه المخدرات الكثيرة، قد قضت على الخطاب العقلاني في عامة الناس، الغير مثقفين، على التفكير السويّ، كما قضت على الشعور بالفردية لدى المرء.

إنّ الناس عامة أصبحوا فاقدي الرغبة في أي نوع من الطموح وهم لا يبتغون أكثر من أن يكون نصيبهم الجنة التي ستعوّض لهم ما يفقدونه في الدنيا، أو أنهم يعملون على التواكل، ففي حروبهم يدعون الله لنصرهم على عدوهم وحتى في متطلبات الحياة من رزق ومال يطلبونه من الله في دعائهم دون أن يخطر ببالهم أنّ هذه الأشياء تتحقّق بالعمل، وليست بالتواكل والدعاء..

وأقوال عن السلفيين من خلال خطابهم، إنهم في غيبة من الوعي وأنّ خطابهم هذا يَشدهم إلى الوراء، ولا يَتقدّم بهم خطوة واحدة إلى الأمام، بل أصبح موقفهم معاديًا لكل تقدّمٍ...
أليس من يدّعي أنه يرشد الناس عن كيفية الوضوء، أصبح خطابه نوعا من الضحك على الذقون، أو أنّه السذاجة بعينها، بل هو في نظري مهازل تبدّد طاقتنا الكلاميّة وتهدر أوقاتنا على حساب واجبات أخرى أكثر أهميّة، وكثيرًا ما يتقاعسوا عن القيام بها بتأويلات يرفضها العقل السليم.

---------------

1 - دراسات في الحضارة.. د/ لويس عوض ص 140.
2 - يوم الأحد 1 سبتمبر 2018 على الساعة الثالثة.
1 - سورة النساء آية 119.
2 - سورة التين الآية 4.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115