برج بابل: الطريق إلى قرطاج مفروش بكمائن الكلمة

كيف تكون السياسة إن لم تكن فن الكلمة؟ فن الخطابة، سحر نغمة الحرف تصل إلى آذان الناس وهم ينصتون إلى أولي الأمر منهم.

الخطابة والسياسة شيئان لا ينفصلان، وتكمن الحيلة السياسية في تطويع الكلمة وفي الذهاب بها مباشرة إلى عقول الناس وقلوبهم. والزعيم هو الذي يتحكم في الكلمة ويجعلها سهلة الدوران في فمه، وهو من كان بيانه ملهما، محلقا بسامعيه، كاسبا لثقتهم فيه. 

يحفل التاريخ السياسي بحالات كان فيها للكلمة أثر بالغ. غيرت الكلمة مجرى تاريخ شعوب بأكملها وحددت مصائرهم بشكل لافت. تذكر الروايات التاريخية أن مسار الفتنة التي عاشها المسلمون بعد مقتل الخليفة عثمان قد انتهى لفائدة معاوية على حساب علي ابن أبي طالب إثر مؤتمر التحكيم. ومؤتمر التحكيم هذا هو مناظرة وقعت بين أبي موسى الأشعري وعمرو ابن العاص. وتفيد تفاصيل المناظرة أن عمرو ابن العاص قد تعمد جعل الأشعري يسبقه بالكلام تحت أنظار جماهير محتشدة تراقب الموقف. نطق أبو موسى الأشعري بكلمات مفادها أنه يتجه إلى خلع علي و معاوية من أجل شخص ثالث أو من أجل جعل الأمر شورى بين المسلمين. وحين أكمل بيانه أجابه عمرو ابن العاص بأنه موافق على خلع علي كما أثبت ذلك غريمه في المناظرة و لكنه غير موافق على خلع صاحبه معاوية. ومنذ ذلك الحين تغيرت الأمور في اتجاه مخالف وانتهت المناظرة بأحقية معاوية بالخلافة. دهاء في استعمال الكلام وفي التصرف فيها في مناظرة سياسية من أشهر المناظرات في التاريخ السياسي الإسلامي. تبقى السياسة في كثير من الأحيان مرهونة بكلمة، بخطاب بجمل تبدو واضحة للبعض ولكنها في الاخر تظهر مفعولا مغايرا.

في خطاب له من شرفة مكتب المقيم العام في الجزائر العاصمة في 4 جوان 1958 قال الجنرال شارل ديقول جملته الشهيرة التي بقيت إلى الآن مرجعا في الدهاء السياسي «لقد فهمتكم». قال ديغول هذه الكلمات متوجها للجميع، إلى أولئك الذين يؤمنون بجزائر فرنسية وإلى الجزائريين المسلمين الذين كانوا يؤيدون الوجود الفرنسي في الجزائر وكذلك الجزائريين الطامعين في الحصول على الحقوق التي تساويهم بالآخرين، هؤلاء جميعا استقبلوا العبارة وكأنها موجهة إليهم فقط دون غيرهم. غموض العبارة كان مقصودا في سياق لا يحتمل الشفافية والوضوح. إتقان الغموض في الخطاب السياسي هو أيضا من شيم السياسيين الكبار.
في كلتا الحالتين هناك تصرف فيه الكثير من الدهاء في استعمال الكلمة، و لكن وراء الكلمة هناك مضمون، هناك مشروع سياسي و هناك مسارات تاريخية بصدد التشكل. ولكن ماذا عن سباق الرئاسة في تونس؟ ماهي كلماته وما هو مضمونه؟

يتجه العالم مع بداية الألفية الجديدة إلى شكل آخر من السياسة. الشكل فيه أخذ مكانا لم يعد فيه المضمون مهما كما كان في السابق. يحصل هذا مع سقوط الإيديولوجيات الكبرى وانحسارها لفائدة السرديات الصغرى التي تصنع مسار السياسي وتوجهه. لم تعد للأفكار تلك الأهمية التي كانت عليها إبان القرن العشرين. الثورة التكنولوجية أتاحت للجميع إبداء الرأي كل بطريقته في الشأن السياسي. هذا الشأن الذي لم يعد حكرا على النخبة السياسية وعلى محترفي السياسة. ونتيجة ذلك أن الجميع بإمكانه الترشح وهو ما حصل في الانتخابات الرئاسية في تونس.

ولكن إذا ما نظرنا إلى ما يحصل في تونس في سياق السباق الرئاسي فإننا نقف عند الملاحظات الأولية التالية:
التركيز متجه نحو تغيير النظام السياسي أو إدخال جرعات عليه بحيث يصبح للرئيس مجال أوسع لممارسة النفوذ. وهذا في حد ذاته كمين سياسي. فالمشكل ليس في المنظومة بقدر ماهو في الفاعل السياسي الذي لم يستطع أن يكون في مستواه لأن تطلعاته فاقت ما أعطاه الدستور. الفاعل السياسي هو الذي يستطيع أن يكون ناجعا في منظومة قائمة الذات، ولكن الذهنية الرئاسوية هي التي تقود بعضهم إلى المطالبة بتغيير المنظومة السياسية.

لم نجد في أقوال المرشحين ما يدل على فهم واضح لما يجري في ليبيا مثلا. الجميع لا يملك رؤية ثاقبة في هذا المجال وليس لديه الشجاعة الكافية لابراز الموقف من المحاور التي تتحكم في الوضع الليبي. ماهو الدور الفرنسي والإيطالي علاوة على دور بعض دول الخليج وتركيا. ثمة انطباع وكأن المترشحين قد تركوا الأمر إلى الوقت المناسب عند دخولهم إلى قصر قرطاج.

يتكرر الغموض فيما يرتبط بالوضع الجزائري الذي يراوح مكانه ولا حل في الأفق سوى الحراك الذي يواصل مسيرته بثبات ولكن إلى أي مدى يمكن ترقب هذه الحالة. المترشحون الذين تكلموا في الموضوع لا يمتلكون - أيضا - رؤية مقنعة عن المسألة. وتأتينا الإجابات العائمة التي تتحدث عن الجزائر كبلد جار تجمعنا به روابط تاريخية. الخوف من المحاور الدولية هي التي جعلت الإجابات عائمة ولكن لا توجد سياسة دولية بدون محاور وعلى المترشح أن يكون شجاعا في التعبير عنها وإقناع الناخبين بها. يتكرر المشهد نفسه عند التعرض للديبلوماسية الاقتصادية التي لا نرى فيها سوى التركيز على فتح الأسواق والاستثمارات في إفريقيا دون إبراز كيفية أنجاز هذا التحدي.

من المهام الجدية لرئيس الدولة حماية الدستور. وهنا لا توجد لدى المترشحين رؤية ثاقبة لكيفية حمايته. ماذا عن الحريات الفردية وعن حرية الضمير وحقوق الأقليات والحقوق البيئية وغيرها وبناء المؤسسات الدستورية والحقوق الأخرى التي نص عليها الدستور.

النقاش العام حول القضايا الكبرى التي على المترشح أن يفصل فيها القول ترك مكانه للتفاصيل الصغرى، وبات تقييم المترشحين منوطا فقط بقدرتهم على الكلام وبقدرتهم على الإبهار مستعينين في ذلك بما تجود عليهم شبكات التواصل الاجتماعي من مزايا اتصالية عديدة. ومن النادر أن تجد على صفحات هذه الشبكات ما يؤسس لديموقراطية صلبة، لنقاش جدي، بل بالعكس هناك ما يشبه ترذيل للشأن السياسي إلى الحد الذي يصبح معه كل التركيز حول الشيء الثالث الذي سيحمله معه أحد المترشحين لقصر قرطاج لو فاز بالانتخابات، ويتم تكوين صفحات فايسبوكية للغرض.

جزء من هذه الكمائن راجع إلى العجلة في التقدم للسباق الرئاسي. في الديموقراطيات العريقة نعرف المتسابقين المحتملين سنة كاملة على الأقل قبل الاستحقاق الانتخابي، وهو ما يتيح لجمهور المتابعين معرفتهم عن قرب وتقييمهم بأفضل شكل.

يبدو والسباق الرئاسي قد بدأ فعليا أننا لن نعثر على أفكار جدية، فلا اليسار ابتكر رؤية جديدة للواقع و لا العائلة التي تسمى وسطية بقادرة على فهم نفسها وفهم مساراتها الجديدة و لا الإسلاميون كذلك قادرون على الخروج من مربع الهوية وفي انتظار ذلك تبقى التفاصيل الصغيرة، المهاترات والأكاذيب وخطاب الكراهية فاعلة في المشهد السياسي وهو ما يجعل الانتقال الديموقراطي فاقدا للحيوية التي تمكنه من أن يكون ديموقراطيا على الوجه المطلوب.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115