قهوة الأحد: يوميات ناخب (1) هل دخلنـا عصر نهايـة اليسار الراديكـــــالي؟

لعل من أهم ملامح هذه الحملة الانتخابية هو الانقسام الكبير الذي تشهده العائلة اليسارية الراديكالية، فستدخل الانتخابات الرئاسية والتشريعية

بطريقة مشتتة مع وجود ما لا يقل عن ثلاثة مرشحين لقصر قرطاج وهم حمه الهمامي والمنجي الرحوي وعبيد البريكي والعديد من القوائم المتنافسة للوصول إلى مجلس نواب الشعب.

وهذه الصورة تختلف بطريقة جوهرية عن ما عشناه منذ خمس سنوات خلت أي في انتخابات 2014 حيث دخلت العائلة اليسارية بطريقة موحدة مما مكنها ولأول مرة من تحقيق نتائج هامة حيث نجح مرشح الرئاسية حمه الهمامي في الوصول الى المرتبة الثالثة في الدور الأول ليحصل على قرابة 8 ٪ من الأصوات، كما نجحت العائلة اليسارية في الفوز بالعديد من المقاعد في الانتخابات التشريعية مما مكنها من تكوين كتلة نيابية في المجلس المنتهية عهدته كان لها دور كبير وهام في المعارضة البرلمانية.

وقد كانت هذه النجاحات نتيجة لمسار توحيدي بين مختلف أطراف العائلة اليسارية منذ النتائج الانتخابية الهزيلة سنة 2011 لينتهي بتكوين الجبهة الشعبية في 2013 لتكون الاطار الجامع لأغلب وأهم مكونات أقصى اليسار، وقد تمكنت أغلب القوى اليسارية من تجاوز خلافاتها الايديولوجية والسياسية وتكوين جبهة واسعة كان في رأيي لها أكبر الأثر في النجاحات الانتخابية التي ستعرفها هذه القوى في انتخابات 2014 وفي تأثيرها في المشهد السياسي ليصبح أيقونة المعارضة والنضال ضد الفقر وتحقيق أهداف الثورة.

الا أن هذا المسار التوحيدي والذي كان سيقود الى تجميع مختلف هذه الأطراف في مشروع الحزب اليساري الموحد بدأ يشهد بعض التصدع منذ أشهر، فقد تصاعدت الانتقادات من بعض الأطراف حول طرق عمل هذا التحالف وتراجع تأثيره السياسي في معارضة الحكم، ومن معارضة ونقد داخلي ستتحول هذه الصراعات والخلافات الى انشقاق بين أطراف عديدة ستنتهي بتقديم مرشحي الانتخابات الرئاسية وهما حمه الهمامي والمنجي الرحوي ويضاف اليهما المرشح الثالث لحزب «تونس الى الأمام» عبيد البريكي.

وقد أثارت هذه الانقسامات والصراعات العلنية الكثير من السخط والنقد من قبل قواعد ومناصري اليسار الراديكالي في بلادنا، واعتبر الكثيرون أن هذا الانقسام وهذه الانشقاقات تنذر بنهاية اليسار الراديكالي وانحساره بطريقة كبيرة في هذه الجولة الانتخابية وتراجعه لصالح القوى الشعبوية التي تمكنت من افتكاك مكانة في قلوب «الزواولة» لكن يبدو أن هذا السخط والغضب لم يكن له تأثير على مواقف القيادات اليسارية والتي واصلت في خلافاتها وصراعاتها مما يشير الى نتائج لن تكون في مستوى النتائج التي تم تحقيقها في 2014 أو في مستوى طموحات قواعدها.

وفي رأيي فإن الخلافات في صلب العائلة اليسارية في هذه الانتخابات هي مؤشر على الأزمة العميقة التي تعيشها هذه القوى منذ سنوات والتي لم تمكنها من استغلال الأزمات من أجل تقوية صفوفها ودعم تواجدها الجماهيري.

وفي هذه الأزمة الطويلة لليسار الراديكالي لابد من الوقوف على ثلاثة محطات رئيسية تشكل لحظات فارقة في تاريخ هذه العائلة السياسية، اللحظة الأولى في هذه الأزمة الطويلة تعود الى سنة 1977 عند تكوين لجنة الحريات من بعض الشخصيات الليبيرالية والتي غادرت الحزب الحاكم إثر مؤتمر 1971 ومن ضمنها السادة أحمد المستيري وحسيب بن عمار، وقد شكل تكوين هذه الهيئة وصدور جريدة «الرأي» ثم تكوين الرابطة التونسية لحقوق الانسان نقطة تحوّل كبرى في الساحة السياسية في بلادنا حيث ستكون نقطة انطلاقة للحركة الديمقراطية ومطالب التعددية في بلادنا، وقد انخرطت بلادنا من خلال هذه التحركات في التوجه العالمي وصعود المطالب الديمقراطية في كل البلدان وبصفة خاصة بلدان المعسكر الاشتراكي وفي البلدان النامية حيث تهيمن الأنظمة الاستبدادية والديكتاتورية العسكرية.

وقد شكل الظهور والتطور الكبير الذي عرفته الحركة الديمقراطية انتصارا مهما للليبيرالية أمام المنظومة الاشتراكية والتي اعتبرت أن الحقوق الاقتصادية والاجتماعية هي أهم وأرقى من الحقوق السياسية، والى جانب هذا التغيير الاديولوجي فإن انتصار الديمقراطية كان له تأثيرا كذلك على الاستراتيجيات السياسية حيث فتحت الباب واسعا لنبذ العنف في الفضاء العام ورفض نظريات الكفاح المسلح وتعويضها بالنضال السلمي في كنف الديمقراطية.

كانت نهاية السنوات السبعين بداية انتصار النظام الليبيرالي لتصبح منظومة الديمقراطية وحقوق الانسان مجال العمل والنضال السياسي.

الا أن القوى اليسارية رفضت قبول الأمر الواقع والانخراط في هذا التحول السياسي الكبير لتواصل النضال والعمل من أجل تحقيق حلم الثورة ولم تكن القوى اليسارية في بلادنا بعيدة عن هذا الموقف بل واصلت في نقد ورفض المطالب الديمقراطية وتمسكت بالمنهج والخيار الثوري، ويشير عز الدين الحزڤي في كتابه الممتع «نظارات أمي» الى النقاشات التي حصلت بين مناضلي أقصى اليسار في السجن عندما طالبهم أصحاب المبادرة الديمقراطية بالامضاء على العريضة، وبعد نقاش فائض رفض مناضلو اليسار الامضاء على هذا البيان ما عدى قلة قليلة منهم.

الا أن المسألة الهامة في رأيي هي نجاح القوى الليبيرالية في جعل المسألة الديمقراطية في لب العمل السياسي منذ نهاية السبعينات الى يومنا هذا، وكان من نتائج هذا المنعطف التاريخي ورفض القوى اليسارية الانخراط فيه هو تهميشها في المشهد السياسي لسنوات طويلة، وستتحمل القوى اليسارية نتائج هذه الخطيئة الأصلية (péché originel) لتكون أحد الأسباب الأساسية لأزمتها وعدم فعاليتها في المشهد السياسي.

ولئن انخرطت هذه القوى في النضال الديمقراطي وفي معركة الحريات فإنها لم تتخلص نهائيا من تشكيكها وتحفضها على هذه القضايا مما لعب دورا هاما في انحسار دورها وتأثيرها.

المحطة الثانية في أزمة التيار اليساري هي سقوط جدار برلين سنة 1989 ونهاية الحلم والمشروع الشيوعي، وقد شكلت هذه المحطة نقطة انعطاف ثانية وجوهرية في مسارات القوى اليسارية، فلحد هاته اللحظة شكل البرنامج الشيوعي وبناء هيمنة الدولة لمصالح الطبقة العاملة على المجتمع البرنامج الذي تلتقي حوله كل الأحزاب والقوى اليسارية والشيوعية في العالم، فعلى المستوى السياسي تمت ترجمة هذا البرنامج بسيطرة الدولة على كل المؤسسات السياسية والهيمنة المطلقة للحزب الواحد على المشهد السياسي ورفض كل امكانات التعبير عن الرأي المخالف والتعددية السياسية.

أما على المستوى الاقتصادي فقد ترجمت الأحزاب السياسية البرنامج الشيوعي في هيمنة الدولة على كل مفاصل الاقتصاد ورفض السوق والتخطيط وتأميم كل وسائل الانتاج، وفي الجانب الاجتماعي عملت الأنظمة الاشتراكية على توفير كل الحاجيات الأساسية للمواطنين من صحة وتعليم وتأمين وغيرها.
شكل البرنامج الشيوعي القاعدة الأساسية التي التقت حولها الأحزاب الشيوعية التي كانت في السلطة أو التي كانت منها في المعارضة.

الا أن سقوط جدار برلين سنة 1989 ونهاية الحلم الشيوعي ستكون له نتائج وخيمة على أغلب الحركات اليسارية في العالم وحتى في بلادنا، ومن أهم نتائج هذا الزلزال الكبير هو فقدان أغلب هذه الحركات لبرنامج مرجعي يقع الاستئناس به والرجوع اليه عند تحديدها لأولوياتها واختياراتها.
ومنذ هذه اللحظة بقيت القوى اليسارية يتيمة وغير قادرة على ضبط برامج اقتصادية واجتماعية ليقتصر عملها على نقد ورفض البرامج الليبيرالية والعولمة المتوحشة، وقد شكل هذا التمشي قطيعة مع المنحى السابق لسقوط جدار برلين لهذه الأحزاب حيث كانت تسعى إلى البناء لتمر اثر ذلك ونظرا لغياب البرنامج إلى موقع الرفض والنقد.
وستشكل هذه المسألة قضية محورية في أزمة الأحزاب اليسارية وتراجع دورها في الأنظمة الديمقراطية باعتبار عجزها وعدم قدرتها على ضبط برامج ورؤى واضحة المعالم للتغيير الاقتصادي والاجتماعي.

المحطة الثالثة والتي ستساهم في أزمة القوى اليسارية وحدة الصراعات بينها هي داخلية وتعود الى اضراب الجوع الذي قامت به بعض الشخصيات في18 أكتوبر 2005 من أجل الدفاع عن الحريات والديمقراطية، وقد أثارت هذه المحطة الكثير من الجدل في أوساط المعارضة وخاصة عند القوى اليسارية نظرا لمشاركة بعض ممثلي حركة النهضة وعناصر قريبة من الاسلام السياسي، فلقد انتقد العديد السماح لمناضلي الحركة الاسلامية المشاركة في هذه المحطة النضالية ضد الديكتاتورية واعتبروا أنها فتحت الباب للحركة الاسلامية للدخول في تحالفات مع الحركات اليسارية. وهذا الجدل والرفض هو مؤشر لتغلغل التفكير الاستئصالي لدى بعض القوى اليسارية والرافضة لتواجد الاسلام السياسي في الساحة السياسية، وقد لعبت هذه المواقف دورا في تهميش وانحسار الحركات اليسارية في بلادنا وفي العالم بصفة عامة.

تعيش الحركات اليسارية أزمة عميقة تتجاوز الخلافات بين مرشحيها في الانتخابات الرئاسية وعدم قدرتها على توحيد قوائمها في الانتخابات التشريعية، فالأزمة أعمق وأشمل وتهم الهوية السياسية والفكرية لهذه القوى والتي عجزت عن تجديدها إثر الأزمات الكبرى التي عرفها المشروع الشيوعي منذ سبعينات القرن الماضي. وقد شكلت المنظمات المدنية وحركات المجتمع المدني محاولة لاعادة احياء البرنامج التحريري الذي حملته الحركات اليسارية في السنوات الماضية، الا أن عمليات اعادة البناء مازالت في ارهاصاتها الأولى مما سينتج عنه سنوات من الانحسار والتراجع للحركات اليسارية في الساحة السياسية.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115