قهوة الأحد: هل سنتمكن من تفادي اللحظة الشعبوية؟

دخلنا مرحلة العد التنازلي للانتخابات الرئاسية والتشريعية لندخل مرحلة طويلة من النقاشات والصراعات السياسية، ولعل ما يميز

هذه الانتخابات مقارنة بالمحطتين السابقتين بعد الثورة أي انتخابات 2011 للمجلس التأسيسي وانتخابات 2014 هو بروز وتدعيم القوى الشعبوية في المشهد السياسي في بلادنا.

وقد يرى بعض الناشطين السياسيين أن هذه التسمية أو التصفيف لهذه القوى السياسية فيه الكثير من السلبية وتقوده نظرة مشينة لهذه الأحزاب أو الحركات أو الشخصيات السياسية، هنا نريد التأكيد على أن فهمنا لهذه القوى يعود الى التحديد الذي وضعته العلوم السياسية في تصنيف القوى والأحزاب السياسية والتي تؤكد على خيانة وفشل النخب السياسية وضرورة المرور مباشرة للوصول للجماهير العريضة والشعوب بدون اللجوء للمؤسسات والتي تشكل حلقة الربط بين المواطنين والسلطة السياسية في الأنظمة الديمقراطية.

ولقد أصبحت هذه القوى والتعبيرات السياسية الجديدة محل اهتمام وجدل كبيرين في الفضاء العام كما هو الشأن في أغلب بلدان العالم خاصة بعد الصعود الكبير لممثليها في استطلاعات الرأي، ولئن برزت القوى الشعبوية في المحطتين الانتخابيتين السابقتين لتشكل مفاجأة كبرى لا فقط للفاعلين السياسيين بل كذلك لمؤسسات استطلاع الرأي فإنها اليوم أصبحت عنصرا مؤثرا في المشهد السياسي في بلادنا، فالى جانب الثلاث عائلات السياسية التي برزت ودخلت مسار التشكل والانخراط بصفة دائمة في المجال السياسي وهي العائلة الوسطية الحداثية والديمقراطية وعائلة الاعلام السياسي والعائلة اليسارية أصبحت العائلة الشعبوية تشكل قوة استقطاب فاعلة وهامة في المشهد السياسي.

ولعل السؤال الذي يطرح نفسه بحدة اليوم والذي يشكل نقطة اهتمام كل المتابعين للواقع السياسي هو قدرة بلادنا على تفادي وتجاوز اللحظة الشعبوية ( Le moment populiste) أم أننا سنستسلم لاغواءاتها كما كان الشأن في عديد البلدان الأوروبية والآسيوية والأمريكية.

فهذه اللحظة وصعود القوى الشعبوية ليست ظاهرة خاصة وتقتصر على بعض البلدان أو الجهات دون غيرها، بل أصبحت ظاهرة عالمية في ظل تواتر الأزمات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية وعجز المشروع الديمقراطي الليبيرالي على تجديد نفسه ليفتح تجربة تاريخية جديدة، وقد بدأت امكانية حصول هذه اللحظة ووصول القوى الشعبوية للسلطة تطرح الكثير من المخاوف ومصدرا للقلق على مستقبل الأنظمة الديمقراطية، ليبقى السؤال الأساسي هو كيف يمكن لنا تفادي هذه اللحظة وتجاوزها من أجل اعادة الروح للمشروع الديمقراطي،

لكن قبل محاولة تقديم بعض الاجابات عن هذا التساؤل سنعود للتاريخ لنقف عند أهم اللحظات السياسية التي عرفها العالم منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وقد عرف العالم في هذه الفترة الطويلة لحظتين:

اللحظة الأولى هي لحظة البناء الوطني واعادة بناء الدولة الوطنية والتي بدأت في البلدان المتقدمة مباشرة اثر الحرب العالمية الأولى وانطلقت في بلدان العالم الثالث اثر حصولها على استقلالها في نهاية الخمسينات، وستشكل عملية التحديث واعادة بناء الدولة الوطنية ومؤسساتها والتي خربتها الحرب العالمية الثانية أو هدمها الاستعمار، الأولوية الأساسية في أغلب البلدان، وسيشمل هذا التحديث ثلاثة مستويات أساسية وهي الجوانب السياسية والاقتصادية والاجتماعية.

فعلى المستوى السياسي قامت أغلب البلدان باعادة بناء الدولة ومؤسساتها على أسس جديدة قطعت مع الدولة التقليدية والمؤسسات الموروثة من بدايات الرأسمالية في الدول المتقدمة ومن عصور الانحطاط في البلدان النامية، وسترتكز عملية إعادة البناء على مبادئ أساسية ستشكل قاعدة النظام السياسي في الدولة الوطنية وهي الحرية والعدالة والديمقراطية، ولئن شكلت الديمقراطية أحد المبادئ الأساسية الوطنية فإن هذه الفترة لم تقطع مع الدولة القوية والتي ستشكل المؤسسة الأساسية لإعادة بناء المجتمعات الحديثة.

وعملية التحديث لم تقتصر على الجانب السياسي بل شملت كذلك الجانب الاقتصادي حيث ستعرف أغلب البلدان خروجا من الاقتصاد التقليدي ودخولا في الاقتصاد الحديث حيث ستلعب القطاعات الاقتصادية الجديدة كالصناعة والخدمات دورا أساسيا في دفع النمو والاستثمار، كما ستلعب الدولة دورا أساسيا في عملية النهوض الاقتصادي على عديد المستويات كالتخطيط المستقبلي والاستثمارات العمومية الضخمة والمؤسسات العمومية التي لعبت دورا أساسيا في دفع عملية التحديث.

ساهمت هذه البرامج الاقتصادية ومشروع تحديث الاقتصادات الوطنية ذورا أساسيا في دفع عملية النمو لتصبح هذه الفترة احدى أهم فترات النمو في أغلب بلدان العالم وليطلق عليها المؤرخون الفترة الذهبية والتي لم نعرف للآن فترة بطولها وبخصب آدائها الاقتصادي.
كما شملت عملية التحديث الجانب الاجتماعي حيث قامت دولة الرفاه ببناء مؤسسات جديدة للتعاون الاجتماعي والتضامن ليخرج التآزر من الحلقة الضيقة للعائلة أو للقبيلة ليدخل الى مجال المؤسسات الحديثة.
وقد ساهمت هذه الانجازات في بناء مشروعية الدولة الوطنية والتفاف الناس حولها.

لقد شكلت اللحظة الوطنية لحظة فارقة في المرحلة التاريخية التي عرفها العالم اثر الحرب العالمية الثانية، فقد ساهم مشروع التحديث وإعادة بناء الدولة الوطنية في فتح فترة تاريخية تميزت بالاستقرار السياسي والتنمية الاقتصادية والأمان الاجتماعي، وقد عرفت هذه المرحلة العديد من الهزات كثورات الشباب في نهاية الستينات الا أن الدولة الوطنية وعقدها الاجتماعي حافظا على استقرارها وصلابتها.

الا أن هذه اللحظة ستشهد بداية تفتتها منذ منتصف السبعينات لتدخل في أزمة عميقة وشاملة. ومن جملة أسباب هذه الأزمة الرفض المتزايد للدولة القوية ومطالبة الشباب بمزيد من الحريات للخروج من سلطة النظام الزبوي، كما ساهمت الأزمات الاقتصادية المتعددة في تطور البطالة وتراجع مشروعية الدولة الوطنية، كما شهدت كذلك هذه المرحلة ظهور الأزمات الاجتماعية واهتزاز ركائز دولة الرفاه.

كل هذه الأسباب عجلت بنهاية اللحظة الوطنية لتفتح حقبة سياسية جديدة وهي اللحظة الليبيرالية ( Le moment libéral) بداية من منتصف الثمانينات، وستشهد أغلب بلدان العالم هذه الثورات الليبيرالية على ثلاث مستويات:
المستوى الأول هو الجانب السياسي حيث عرفت أغلب بلدان العالم اصلاحات سياسية حدت وقلصت من هيمنة الدولة على الفضاء العام وساهمت في تطور الحريات الفردية في عديد المجالات.

المستوى الثاني لهذه الاصلاحات يخص الجانب الاقتصادي حيث قامت الحكومات اليمينية التي تعاقبت على الحكم بالحد من دور الدولة وجعلت من السوق المعدل الجديد للديناميكية الاقتصادية، فدخلت أغلب البلدان في برامج خصخصة للمؤسسات العمومية وتراجع الاستثمار العمومي لصالح الاستثمار الخاص، ولم يقتصر هذا المنحى الليبيرالي على البلدان المتقدمة بل عاشته البلدان النامية تحت ضغط المؤسسات الدولية وخاصة صندوق النقد الدولي والبنك الدولي لكبح جماح أزمة المديونية.

لقد عملت الاصلاحات والثورة النيوليبيرالية منذ منتصف الثمانينات على الخروج من البوتقة الضيقة للدولة الوطنية وجعلت من العولمة الاطار الجديد للنمو الاقتصادي.
ولم تقتصر الثورات الليبيرالية على المجالين السياسي والاقتصادي بل شملت كذلك المجال الاجتماعي حيث سيعرف دور الدولة تراجعا كبيرا لفائدة القطاع الخاص وشركات التأمين الخاصة.

تركت أزمة الدولة الوطنية المجال فسيحا أمام العالم الليبيرالي ليهيمن على المشهد السياسي منذ منتصف الثمانينات، وقد عمل هذا المشروع على اعادة بناء العقد الاجتماعي الديمقراطي من خلال تراجع الدولة لصالح الفرد والخروج من الفضاء الوطني والدخول في المشروع واللحظة الليبيرالية سيعرف العالم نهاية الحقبة الحداثية والدخول في فترة ما بعد الحداثة.

الا أن المشروع الليبيرالي بدأ يعرف الكثير من الهزات والأزمات في السنوات الأخيرة فالى جانب الأزمة الاقتصادية العالمية لسنوات 2008 و2009 والتي كادت أن تدفع بالنظام الرأسمالي إلى الهاوية عرف العالم تزايد الأزمات الاجتماعية وارتفاع البطالة والتهميش والتفاوت الاجتماعي.
خلقت هذه الأزمات المتعددة جوا من الخوف والقلق وعدم الاطمئنان كانت وراء الأزمة العامة التي يعيشها النظام اللبيرالي في السنوات الأخيرة.

وقد فتحت هذه الأزمة مرحلة جديدة في التاريخ السياسي الحديث وهي اللحظة الشعبوية الرافضة للنظام الديمقراطي الليبيرالي والتي تعتبره سبب انخرام العالم، وتلتقي هذه الحركات في تحميلها مسؤولية هذه الأزمات للنخب السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي انقطعت في علاقتها مع الجماهير الواسعة والعريضة. وتدعو هذه الحركات الى قطع العلاقة مع المؤسسات الوسطى (institutions d'intermédiation) وبناء علاقات مباشرة مع الشعب.

وقد أثارت هذه الحركات ونموها السريع في السنوات الأخيرة الكثير من المخاوف والقلق، وتعود هذه المخاوف الى أربعة أسباب أساسية: المسألة الأولى تخطي الخطاب العنيف الذي تعتمده أغلب هذه الحركات والذي يساهم في اشعال فتيل العنف في المشهد السياسي ولا يساهم في تهدئة الخواطر وبناء خطاب سياسي عقلاني ومتزن.
المسألة الثانية تخص الجانب المغامر في هذه القوى والتي تدفعها في بعض الأحيان للقيام بتجارب عادت بالوبال على الانسانية.

المسألة الثالثة تخص الجانب الاقتصادي، فأغلب هذه القوى بنت فكرها وممارستها السياسية على رفض الآخر المغاير والمختلف، فهي ترفض المختلف عرقيا وجنسيا وحتى اجتماعيا.

المسألة الرابعة تخص محاولتها ودعوتها في برامجها العودة الى الوراء، فالعودة الى الأمس يشكل الاجابة والبديل على أزمات اليوم، وتعطينا هذه الحركات صورة وردية على واقع الأمس مقارنة باحباطات اليوم لتدعو الى العودة الى هذا الزمن المضيء والذهبي.
تشكل هذه النقاط محاور القلق والخوف من صعود الحركات الشعبوية وهيمنتها على المشهد السياسي، الا أنه وبالرغم من دقة الأوضاع والنمو الكبير لهذه الحركات فانه يمكننا تفادي هذه اللحظة الليبيرالية عبر اعادة احياء المشروع الديمقراطي وجعله قادرا على بعث الأمل والثقة في المستقبل.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115