وقد ازدادت الاستفزازات حدة في الأيام الأخيرة لتجعل المواجهة قادمة مما أثار الكثير من المخاوف على السلم في المنطقة والسلم في العالم بشكل عام .
فقد اتهمت الإدارة الأمريكية إيران بأنها وراء الاعتداءات على السفن التجارية منذ أيام . كما أشارت إيران إلى أنها أسقطت طائرة أمريكية بدون طيار منذ أيام . وأعلن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إلى انه تراجع في آخر لحظة عن قرار قصف ثلاثة أهداف نظرا لانعكاساتها الكبيرة المحتملة على المدنيين .
كل هذه التطورات تشير إلى تدهور الوضع في المنطقة وتصاعد التوتر بين الولايات المتحدة الأمريكية وإيران مما ينذر باندلاع مواجهة عسكرية تهدد السلم العالمية . والسؤال الذي يطرح نفسه هو كيف يمكن للمجموعة الدولية أن تجنبنا هذه المواجهة وتمكننا بالتالي من الحفاظ على السلم في المنطقة والابتعاد عن التوتر الكبير والقلق الذي يسيطر على
العالم .
ولكن قبل الحديث عن إمكانات تراجع شبح الحرب سنحاول في هذا المقال تحديد الأسباب التي ساهمت في تصاعد التوتر في المنطقة وبروز أجيج الحرب .
والسبب الأول وراء تصاعد الخلافات بين الولايات المتحدة الأمريكية وإيران بعد ثلاث سنوات من الهدوء اثر إمضاء الاتفاق النووي يكمن في رأيي في التغيير الكبير الذي ادخله الرئيس دونالد ترامب اثر وصوله إلى البيت الأبيض والقطيعة التي أحدثها مع الاختيارات الإستراتيجية التي وضعها ودافع عليها الرئيس السابق باراك أوباما .
لقد ادخل باراك أوباما تغييرا كبيرا وهاما في السياسة الخارجية الأمريكية وفي اختياراتها الإستراتيجية في الشرق الأوسط . فقد حاول الابتعاد عن سياسة الدعم المطلق للحليفين التقليديين في المنطقة أي إسرائيل والبلدان الخليجية وبصفة خاصة العربية السعودية وقام البيت الأبيض بإتباع سياسة أكثر توازنا في المنطقة ولم يتردد في توجيه النقد للحلفاء التقليدين مما خلق جفوة كبيرة بين البيت الأبيض من جهة وإسرائيل والعربية السعودية خلال عهدة أوباما .
وهذا التغيير الجذري في السياسة الخارجية الأمريكية هو نتيجة قراءة إستراتيجية جديدة للإدارة الأمريكية للتحولات الكبرى والتغييرات الإستراتيجية التي يعرفها العالم. ولعل من أهم نتائج هذه القراءة الجديدة هي تراجع القيمة الإستراتيجية للمنطقة العربية والتي كانت مرتبطة شديد الارتباط بالمخزون النفطي الهام الموجود في أراضيها والذي يجعل الاقتصاد العالمي شديد التبعية لهذه الطاقة . إلا أن هذه الأهمية الإستراتيجية بدأت في التراجع في السنوات الأخيرة مع ظهور عديد البلدان الأخرى المصدرة للنفط والتي ليست عضوة بمنظمة الاوبيك.وتدعم تراجع المنطقة العربية مع ظهور تبعيتها للنفط وبصفة عامة للمنطقة العربية .
المسألة الثانية تهم قراءة الإدارة الأمريكية لطبيعة الإسلام السياسي والتي عرفت تطورات كبيرة منذ ظهور الإرهاب على الساحة الدولية . فإلى حد اعتداءات 11 سبتمبر 2001 في نيويورك وعلى البنتاغون في واشنطن كانت الإدارة الأمريكية والمراكز الإستراتيجية للتفكير تعتبر أن الإسلام الشيعي الثوري والذي ظهر في خضم الثورة الإيرانية هو الخطر الكبير على مصالحها وتهديد هام للنظام العالمي . أما الإسلام السياسي السني فقد اعتبرته الإدارة الأمريكية صديقا وحليفا في حربها ومواجهتها للخطر الشيوعي على المستوى العالمي . وقد شكلت حرب الطالبان والمجاهدين القادمين من مختلف البلدان الإسلامية (والمدعومين من طرف الإدارة الأمريكية ) ضد الجيش الأحمر في أفغانستان فرصة لإبراز هذا التحالف الكبير .
إلا أن هذا التحالف ستنفرط حباته منذ بداية الألفية وبداية العمليات الإرهابية وتصاعدها اثر ثورات الربيع العربي وظهور داعش ليتنامى معها التشكيك والتراجع عن التحالف السابق مع الإسلام السياسي ذو المرجعية السنية .وانقلب التحالف القديم إلى حرب دون هوادة من قبل الإدارة الأمريكية ضد الحركات الإرهابية.وكان لهذا التحول تأثير كبير على مواقف الإدارة الأمريكية في عهد الرئيس اوباما التي أصبحت تعامل البلدان الخليجية وبصفة خاصة العربية السعودية بالكثير من البرود .
كان لجملة هذه التطورات انعكاسات كبيرة على مواقف وتحالفات الإدارة الأمريكية في المنطقة حيث تراجعت عن تحالفاتها التقليدية لتأخذ مواقفا أكثر اتزانا وعلى نفس المسافة من كل القوى في المنطقة . وقد ساهم هذا التحول في إبرام الاتفاق حول السلاح النووي وفي نفس الوقت في رفع الحصار على إيران .
إلا أن قدوم دونالد ترامب كان وراء تغيير جديد في الأولويات والتحالفات في المنطقة . فقد أشار ترامب منذ حملته الانتخابية أن إيران لا تحترم الاتفاق النووي وأنها تواصل برنامجها النووي لتصل إلى القنبلة النووية.
واثر انتخابه واصل في هذه التوجهات ليعلن انسحابه من هذا الاتفاق في شهر ماي 2018. وصاحب هذا الانسحاب رجوع الإدارة الأمريكية إلى مربع تحالفاتها القديمة والداعمة بدون قيد أو شرط لإسرائيل والقريبة من بلدان الخليج وبصفة خاصة والمعادية لإيران .
أما السبب الثاني وراء تصاعد الخلافات وبداية الإعداد المواجهة العسكرية فيعود إلى وصول مجموعة من الصقور القريبين من المحافظين الجدد الذين كانوا وراء مختلف الحروب في المنطقة العربية وخاصة الحربين في العراق والحرب في أفغانستان .ويدافع المحافظون الجدد على ضرورة إعادة بناء الهيمنة الأمريكية على العالم وذلك بكل الطرق الممكنة ومن ضمنها استعمال القوة العسكرية ويدافع اقرب مساعدي الرئيس الأمريكي وهما وزير الخارجية مايك بومبيو Mike Pompeo ومستشار الأمن القومي جون بولتون John Bolton على خط المواجهة مع إيران وضرورة توجيه ضربات عسكرية لإضعاف وتدمير الطاقات العسكرية والنووية الإيرانية . ولعل الذي يجب ملاحظته اليوم هو أن الصقور موجودون في المؤسسات السياسية والديبلوماسية بينما نجد معسكر الحمائم والمتحفظ على التدخل العسكري في البنتاغون وعند القيادات العسكرية وبصفة خاصة جوزاف دينفورد joseph Dunford القائد الأعلى للقوات المسلحة والمتحفظ على نهج المغامرة العسكرية الذي يدافع عليه الصقور .
أما السبب الثالث وراء ارتفاع طبول الحرب والأخطار المحدقة فيخص خروج الولايات المتحدة الأمريكية من الاتفاق النووي الممضى سنة 2015 بين إيران من جهة وألمانيا وبريطانيا وفرنسا وروسيا والصين والولايات المتحدة الأمريكية .
وقد أعلنت أمريكا انسحابها من الاتفاق في ماي 2018 وإعادة - في نفس الوقت - الحصار التجاري ومنع كل المؤسسات الاقتصادية والتجارية في العالم من توجيه صادراتها إلى إيران . وككل تجارب المقاطعة والمحاصرة فان إقدام أمريكا على هذا القرار كان وراءه صعود الصقور في النظام الإيراني وهيمنة قادة حراس الثورة على الساحة السياسية والقرار السياسي .وقوبل القرار الأمريكي بعملية تصعيد كبيرة من الجانب الإيراني حيث قررت السلطات الإيرانية عدم احترام بنود الاتفاق وتجاوز الكمية المسوح بها في تخصيب الاورانيوم وهي في حدود 300 كلغ . كما نبهت إيران انه إذا لم تتراجع الولايات المتحدة على قرارها فإنها ستنطلق من جديد في إعادة بناء مفاعل نووي جديد وقع إيقاف أشغاله عند إمضاء الاتفاق كما أنها ستتجاوز نسبة التخصيب المسموح بها في الاتفاق وهي بحدود %3 او %4 تدفع هذه التوجهات نحو المزيد من التوتر وتنامي المخاوف ومن مواجهة عسكرية جديدة في المنطقة قد تتحول إلى مواجهة عالمية تهدد السلم والأمن في العالم . وقد زاد هذا الصراع من حدة عدم الاستقرار والتخوفات حول مستقبل الاستقرار والسلام في العالم .
والسؤال الذي يطرح نفسه اليوم هو إمكانية إيقاف هذا النزيف الخطير والانحدار المفزع للأوضاع في الجهة لتجنب الحرب والوصول إلى اتفاق عادل يبعد شبح الحرب ويساهم في دفع الاستقرار والتنمية في العالم .
وهنا نشير الى عاملين مهمين قد يساعدان في الخروج من هذه الأزمة بدون الوصول إلى المواجهة العسكرية المباشرة .
العامل الأول يعود إلى الاختلافات في صلب الإدارة الأمريكية والصراعات بين الصقور والحمائم حول الخيار العسكري والمواجهة المباشرة في إيران . فلئن دافع ورثة المحافظين الجدد في مجلس الأمن القومي وفي الديبلوماسية عن هذا الخيار فان المسؤولين العسكريين في البنتاغون وبصفة خاصة الجنرال جوزيف دينفورد joseph Dunford يبدون أكثر تحفظا على هذا الاختيار . وقد ساهمت هذه الخلافات في التردد الكبير الذي ميز قرارات الرئيس دونالد ترامب وتراجعه في آخر لحظة عن قصف إيران بعد إسقاطها للطائرة دون طيار . وهذا التردد والتراجع له علاقة كذلك بالخيار الانتخابي بالتركيز على تحسين الأوضاع الداخلية في الولايات المتحدة الأمريكية وتفادي الدخول في نزاعات وحروب خارجية . وفي ظل هذه الخلافات تبدو إستراتيجية دونالد ترامب تجاه إيران في القيام بأقصى أنواع الضغط دون الدخول في مواجهة عسكرية مباشرة .
أما العامل الثاني فيخص القرار الإيراني في عدم احترام بنود الاتفاق النووي لسنة 2015 وتطوير عمليات تخصيب الاورانيوم إلا أن الخبراء في مجال الطاقة النووية يؤكدون أن الأهداف الجديدة التي وضعتها الحكومة الإيرانية لا يمكن أن تجعلها قادرة على صنع القنبلة النووية . كما يمكن من الناحية الفنية والتقنية التراجع عنها في صورة حصول اتفاق جديد.
إلا انه وبالرغم من هذه العوامل التي من شانها أن تقلص من مخزون وحدة التوتر في المنطقة فان شبح الحرب والمواجهة العسكرية لازال قائما . ولابد للمجموعة الدولية وبصفة خاصة البلدان العظمى الممضية على اتفاق 2015 من التحرك والضغط على كل الأطراف من اجل إبعاد شبح الحرب وحماية السلم العالمية.وفي رأيي فان هذا الهدف لا يقتصر على إعادة تفعيل هذا الاتفاق بل يجب أن يتعداه إلى هدف اشمل واكبر في جعل المنطقة العربية خالية من السلاح النووي ومن اجل وضع برنامج إقليمي هدفه عودة التنمية والتعايش السلمي لإعطاء جرعة كبيرة من الأمل في المنطقة والخروج من منطق العنف والحرب والدخول في تجربة تاريخية جديدة مبنية عل التعاون والعيش المشترك .