إلى جانب أفلامه الأخرى «كالأزمنة الحديثة» والتي صورت وأرّخت للتحول الكبير الذي عرفته البلدان الرأسمالية من النظام الاقتصادي التقليدي لتدخل مرحلة التطور الرأسمالي.وأهمية أعمال شارلي شابلن تكمن في النظرة النقدية التي سلطتها على هذه التطورات الكبرى وظروف الاستغلال والتهميش والقهر التي عرفتها الطبقات الكادحة والشعبية في ظل هذه التطورات السياسية والاقتصادية والاجتماعية وقد عرفت أعمال شابلن نجاحا منقطع النظير في السينما العالمية إلى يومنا هذا نظرا لابتعادها عن المأساوية والبؤس في كتابتها السينمائية واعتمادها أساسا على التهكم والسخرية من هذه التحولات وانعكاساتها الاجتماعية السلبية على الفئات الاجتماعية .
ويعتبر شريط la ruée vers l’or» من أهم أفلام شارلي شابلن التي تم إنتاجه سنة 1925 في نسخته الصامتة .ليعود المخرج إلى إنتاج نسخة جديدة بعد إدخال الصوت والحوار سنة 1952.وأهمية هذا الشريط تعود في رأيي إلى جانبين أساسيين.الجانب الأول والذي جاء لتأكيد أهمية الذهب في النظام الاقتصادي وبصفة خاصة في المعاملات التجارية منذ بداية ظهور السوق وخروج الإنسانية من طور اقتصاد الاكتفاء الذاتي أو «économie de subsistance» إلى طور التبادل التجاري.
وتواصل هذا الدور الأساسي إلى حدود المراحل الأولى وإرهاصات النظام الرأسمالي .
أما السبب الثاني وراء نجاح وشهرة هذا الشريط فهو تأكيده على الظروف المأساوية وظروف الاستغلال غير الإنسانية التي يعيشها الباحثون عن الذهب في المناجم وطرق الإنتاج البدائية بينما تتمتع الفئات البرجوازية بنتاج هذا العمل لتراكم ثروات طائلة وتهيمن بفضلها على المجتمعات الرأسمالية .
ومنذ إنتاج هذا الشريط وخروجه إلى الجمهور العريض عرف هذان العنصران تطورات مهمة وكبرى .فقد عرفت ظروف استخراج هذا المعدن الثمين بعض التحسن في الكثير من البلدان بفضل النضالات العمالية وتكوين التجمعات والمنظمات النقابية التي لعبت دورا كبيرا في تحسين ظروف العمل والترفيع في أجورهم .هذه التطورات لا تنفي ظروف الاستغلال التي يعيشها العاملون في قطاع الاستخراج في عديد البلدان الفقيرة وخاصة في إفريقيا اليوم والتي لا تقل في قساوتها عن الظروف التي عرفتها أعمال هذا القطاع في القرن التاسع عشر في البلدان المتقدمة .
المجال الثاني للتطور الذي عرفه الذهب في الدورة الاقتصادية يهم تراجع دوره في الحركة الاقتصادية في المجتمعات الحديثة .فقد عملت هذه المجتمعات على التقليص من هذا الدور المركزي الذي لعبه المعدن الأصفر في المجتمعات التقليدية كضمان للنقد والعملات والمعاملات النقدية لتكون المؤسسات المالية وبصفة خاصة البنوك المركزية هي الضامن الأساسي لاقتصاد السوق وللتعامل والمبادلات في النظام الرأسمالي .
ولئن عدنا إلى تاريخ النظام الاقتصادي منذ العصور القديمة نجد أن المجتمعات القديمة عملت على إيجاد أدوات ومواد من اجل تسهيل وتنظيم عمليات التبادل التجاري والمالي . وبعد تجربة العديد من الأدوات تم اللجوء إلى الذهب ليكون مرجع عمليات التبادل. ويعود هذا الاختيار إلى ندرة هذا المعدن والأهمية التي اكتسبها في المجتمعات الإنسانية عبر التاريخ . وسيصبح الذهب تدريجيا المرجع الأساسي للتعامل التجاري والتبادل الاقتصادي لا فقط في الأسواق الوطنية بل كذلك في التعامل بين البلدان وفي بدايات التجارة العالمية.
ولم يقلل ظهور الأوراق المالية والنقدية من أهمية الذهب باعتباره بقي المصدر والمرجع لهذه الأوراق . ويطلق الاقتصاديون على هذا النظام المالي والنقدي تسمية مرجع الذهب أو étalon-or والذي يمكن كل شخص من تحويل أوراقه النقدية والمالية إلى ذهب متى شاء ذلك.
وقد أعطى هذا النظام النقدي حصانة كبيرة في التعامل التجاري بين الأشخاص والدول وكان وراء مخزون الثقة اللامتناهي في الأسواق.
إلا إن هذا النظام على أهميته عرف حدوده مع بداية ظهور النظام الرأسمالي ليصبح بسرعة احد العوائق الكبيرة أمام تطوره نظرا لندرة الذهب .فبدأت المحاولات للتقليص من دوره في المجتمعات الرأسمالية لتدخل البنوك المركزية مرحلة جديدة في طباعة الأوراق النقدية المالية بدون الرجوع إلى مخزون الذهب الموجود في خزائنها. وقد ساهم هذا التوجه في التطور الكبير الذي عرفه النظام الرأسمالي والنمو الهام للاستثمار والنمو.وقد شكلت الثقة في الدول والأنظمة الديمقراطية ومؤسساتها المالية وبصفة خاصة البنوك المركزية بديلا على الذهب .
ولم تقتصر هذه التطورات والتقليص من دور الذهب على التعاملات داخل الاقتصاديات الوطنية بل شملت كذلك التجارة الدولية بصفة خاصة اثر نهاية الحرب العالمية الثانية مع اعتماد ما يسميه الاقتصاديون étalon-dollar أو المرجع الدولار. اذ أفسر اجتماع بريتون وودز Bretton woods القرية الصغيرة الأمريكية سنة 1944 عن الاتفاق بين البلدان المنتصرة في الحرب العالمية الثانية على النظام النازي على وضع الأسس للنظام الاقتصادي العالمي الجديد الذي سيقر تراجع بريطانيا القوة العالمية القديمة وصعود الولايات المتحدة الأمريكية لتهيمن على الاقتصاد العالمي. والى جانب إنشاء المؤسسات التي ستشرف على حسن سير هذا النظام العالمي أي صندوق النقد العالمي والبنك الدولي لإعادة تشييد أوروبا بعد الخراب الذي عرفته في الحرب العالمية الثانية فقد أفضت النقاشات المضنية بين ممثلي الدول الكبرى ومن ضمنهم الاقتصادي الانقليزي الكبير اللورد جون ماينار كاينس John Keynes إلى الاتفاق على مبادئ عمل النظام العالمي وقواعد الدفوعات الدولية . وقد أسس هذا التوافق العالمي إلى ما يسميه الاقتصاديون نظام etalon-dollar أو مرجع الدولار والذي أصبحت بمقتضاه العملة الأمريكية هي عملة التداول الدولية .إلا أن الأهم في النظام العالمي الجديد هو التراجع الجديد لدور الذهب لتبقى العملة الأمريكية التي يمكن تحويلها إلى هذا المعدن الثمين.
إلا أن هذا النظام العالمي الجديد سيشهد أزمة كبيرة في بداية السبعينات مع عدم قدرة الولايات المتحدة على الإيفاء بتعهداتها بتحويل احتياطي الدول الأخرى من الدولار إلى ذهب.فأعلنت نهاية هذا النظام وبالتالي عدم استعدادها لدفع سبائك الذهب إلى البلدان الأخرى مقابل ما تجمع عندها من دولارات .
وبالرغم من هذه الأزمة ونهاية نظام الصرف العالمي المعتمد على الدولار والذي تم اعتماده في بريتون وودز فإن دور الذهب استمر في تراجعه وتهميشه في المبادلات التجارية وفي الاقتصاد العالمي بصفة عامة.
من جملة هذه المعاملات يمكن لنا أن نستنتج نتيجة أساسية وهي أن الخروج من المجتمعات التقليدية ودخول الإنسانية إلى المجتمعات الحديثة وبصفة خاصة النظام الرأسمالي صاحبه تحول كبير في نظام المبادلات والمعاملات الاقتصادية مع التراجع الكبير في دور الذهب لصالح الأوراق المالية والنقدية .وقد ساهم هذا التطور والقطيعة في النمو والطفرة الاقتصادية التي عرفها العالم وما يسميه الاقتصاديون بمرحلة «الثلاثين الذهبية» أو «les trente glorieuses» لما بعد الحرب العالمية الثانية.
وقد لعب عاملان أساسيان دورا مهما وكانا في رأيي وراء هذه التحولات الكبرى وتراجع دور الذهب لصالح الأوراق المالية والنقدية. العامل الأول يخص تنامي مخزون الثقة في المؤسسات المالية والنقدية وبصفة خاصة البنوك المركزية والتي أصبحت الضامن لصلابة التعاملات المالية عند الأفراد والشركات والتي لم تعد ترى ضرورة لتحويل الأوراق الموجودة في خزائنها إلى سبائك من ذهب .العامل الثاني والذي لعب دورا مهما في تراجع دور الذهب يخص فترة النمو الكبرى والطفرة الاقتصادية التي عرفها العالم والتي نمت حب المخاطرة عند الفاعلين الاقتصاديين .
إلا انه يبدو أننا دخلنا مرحلة جديدة في السنوات الأخيرة وبدأنا مرحلة من التهافت على المعدن الأصفر وكأن عجلة التاريخ بدأت تعود بنا إلى الوراء . فقد شهد الطلب على الذهب نموا كبير في السنوات الأخيرة لتبلغ مشتريات الذهب من قبل البنوك المركزية حوالي 657 طنا سنة 2018 أي بارتفاع قدره %74 مقارنة بسنة 2017.وقد تواصل هذا الارتفاع في الطلب على الذهب في الأشهر الأولى لتصل جملة المشتريات حوالي 140 طنا إلى حدود شهر ماي للسنة الحالية .
وساهمت هذه الشراءات في ارتفاع مخزون الذهب عند البنوك المركزية بـ%20 ليصل اليوم إلى 33976 طن اغلبها عند الدول الكبرى مثل الولايات المتحدة الأمريكية (8000) طن وألمانيا (3360 طن) وايطاليا(2400 طن) وفرنسا (2400 طن) وروسيا (2160 طن) والصين (1800 طن).
إلا أن الذي يجب ملاحظته اليوم أن هذه الشراءات الجديدة قد أتت من بلدان بعينها مثل روسيا التي بلغت مشترياتها سنة 2018 (274 طن) وكازاخستان (50 طن) وبولونيا (25 طن) والصين (10 أطنان).
هذا التهافت والجري من اجل الحصول على المعدن الأصفر يشير إلى عودته كما كان الشأن في المجتمعات التقليدية إلى ملاذ (refuge) مع تصاعد المخاطر وتطور التحديات
العالمية الكبرى.ويعود في رأيي صعود الذهب وعودته بقوة على الساحة الاقتصادية العالمية إلى ثلاثة أسباب أساسية .السبب الأول سياسي ويهم تراجع الثقة في النظام الديمقراطي ومؤسساته والتي كانت وراء صعود القوى الشعبوية .السبب الثاني اقتصادي ويهم الأزمة الاقتصادية الخانقة التي يعرفها النظام الاقتصادي العالمي منذ الأزمة العالمية لسنوات 2008 و2009 والتي لم يتمكن إثرها من استعادة نسق النمو الذي عرفه قبلها.أما السبب الثالث فهو استراتيجي ويهم محاولة عديد البلدان وبصفة خاصة الصاعدة منها التخلص من الاحتياطي الكبير للدولار الموجود عندها وتعويضه بالذهب اتقاء للمخاطر التي يعرفها الاقتصاد الأمريكي .
لقد عرف الذهب عودة قوية في الاقتصاد العالمي بعد عقود من التراجع .وهذه العودة في رأيي مؤشر كبير للمخاطر التي يعيشها النظام الرأسمالي وانسداد الأفق والأزمة الاقتصادية الكبرى التي نعيشها .وهذه الأوضاع تتطلب حلولا عاجلة وبرامج كبرى لتعود الديمقراطية والثقة في مؤسساتها الملاذ الوحيد والضامن لصلابة مجتمعاتنا .