برج بابل// هل كرة القدم لعبة ديمقراطية؟

في البدء لا شيء يوحي بوجود علاقة ما بين الديمقراطية وكرة القدم. قد تؤول المسألة إلى مجرد ترف

فكري لا غير. ولكن بعض المؤشرات تدفعنا إلى التفكير في إمكانية العلاقة بين حقلين في الظاهر لا وصل بينهما.

مؤشرات عديدة تؤكد أن شيئا ما يمكن أن يربط بين الممارستين. برزت لعبة كرة القدم الحديثة في فضاءات جامعة « كامبردج» الأنقليزية، في ستينيات القرن التاسع عشر، هناك تمّ ترتيب قوانينها ودليل إجراءاتها. لقد كانت لعبة يمارسها أبناء الطبقة الأرستقراطية في سياق تهذيب سلوكهم وتعويدهم على الالتزام بالقواعد وتصريف طاقة العنف لديهم. اللعبة حديثة إذا، ظهرت في أول بلد ديمقراطي وصناعي في العالم. إن تزامن بروز كرة القدم في هذا السياق التاريخي يجعل منها إحدى أهم منتجات الحداثة الأوروبية الصاعدة.

انتشرت اللعبة في المستعمرات شرقا وغربا، وتمّت صياغتها وفق الخصوصيات الثقافية والمجتمعية لكل بلد. وكما تصدّر بريطانيا منتجاتها وتفوقها الصناعي وقوتها العسكرية صدّرت أيضا لعبة كرة القدم. حملها المستعمرون كما يحملون أي شيء مثير معهم وهم يقتحمون العوالم الأخرى.

مثلها مثل البرلمانات والهيئات الدستورية والانتخابات، مثلت كرة القدم حدثا لا يستهان به آنذاك فهي حقل للتنافس بين اللاعبين مثلما البرلمان حقل للتنافس بين السياسيين في ديمقراطيات أوروبا الحديثة.

هل لعبة كرة القدم مجرد لعبة للتنافس؟ هل توجد مُثل في هذه اللعبة؟ أين المُثل الديمقراطية في كرة القدم؟ هل كرة القدم أُمثولة ديمقراطية؟

التنافس هو إحدى القيم والمُثل الديمقراطية، تنافس انتخابي مثلا وفق قواعد مضبوطة، يتمّ من خلالها احترام هذه القواعد ومراقبة تنفيذها والتأشير على صلاحيتها. أليست كرة القدم كذلك، لعبة تنافسية وفق قواعد يسهر الحكم على حسن تنفيذها؟ أليست الهيئات الدستورية التي تراقب التمشي الديمقراطي هي نفسها الهيئات الكروية دوليا ووطنيا وهي تشرف على حسن تطبيق قوانين اللعبة؟

لا معنى في الديمقراطيات لقيمة التنافس دون قيمة الجدارة وهي قيمة ديمقراطية بامتياز، الأجدر هو الذي مبدئيا له الحق في ممارسة السلطة عبر صناديق الاقتراع. الجدارة هي إحدى أهم القيم في لعبة كرة القدم، جدارة الفريق وجدارة اللاعب عندما يثبت مكانته بين الآخرين. ولا معنى للديمقراطية دون مبدإ المساواة بين المواطنين، إحدى ركائز الديمقراطية هي المساواة، هذه المساواة نفسها هي إحدى علامات لعبة كرة القدم، المساواة بين اللاعبين والنوادي، وتطبيق نفس القوانين مهما كان حجمها ومكانتها. كل فريق في مباراة كرة القدم له الحق في نفس عدد اللاعبين، تطبق عليه ولو نظريا نفس قوانين اللعبة. لكل فريق الحق وبالتساوي في أن تكون له ضربة البداية والأمثلة عديدة.

يتكون لدى متابعي لعبة كرة القدم تصوّر أن هذه الأخيرة هي التجسيد الأعلى للقيم الديمقراطية بما فيها من تنافس ومساواة وجدارة وعدالة ومكافأة على بذل المجهود والنجاح فيه. اللعبة تعطي قيمة عليا لمكانة الفرد وقدرته على الإبهار وحسن الأداء، هي المصعد الاجتماعي الذي يُعطي للاعب قادم من عوالم الفقر والتهميش فرصة أن يصبح نجما عالميا فقط ببراعته الكروية وليس بانتمائه الطبقي أو العائلي. هذه القيمة المسندة للفرد الناجح هي قيمة ديمقراطية بامتياز لأن هذه الأخيرة حررت الفرد وأعطته إمكانيات التألق المتعددة.

من حيث القيم والمُثل فإن كرة القدم هي لعبة ديمقراطية، يتطلع الناس إليها ويغرمون بها فهي تحيلهم ولو ذهنيا إلى كل المبادئ الديمقراطية. بين منظومة القيم والمُثل كما نتصورها وبين تطبيقاتها يكمن الفارق، إذ الواقع مختلف عن التصوّرات. فرضيتنا في هذا المجال أنه كلما ذهبنا أشواطا كبيرة في تجسيد قيم الديمقراطية ومُثُلها ذهبنا أشواطا كبيرة في لعبة كرة قدم ملعُوبة بشكل ديمقراطي. وكلما تعثر المسار الديمقراطي في بلد ما تعثرت معه لعبة كرة القدم لا في نتائجها بل في المنظومة وحوكمتها.

كرة القدم عندنا مرتبكة جدا مثلما هو الانتقال الديمقراطي، المساران لا ينفصلان تقريبا.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115