من أجل استرداد ما هُدر من كرامة أن يحدّد التونسي بوضوح وضمن واقع السجال الحامي والمحاذير الأمنية والاقتصادية التي تترصد البلاد الخط السياسي الذي يتعين عليه النضال من أجله. فبعد ثماني سنوات من حصول ذلك الصدع تفرّق التونسيون شيعا جاوزت المائتي فرقة، ناكفت بعضها البعض عبر الاحتكام إلى جملة من التصورات والقيم والضوابط لا يفصل بينها عمليّا وفي تقديرنا الشخصي سوى الانتصار إلى المحافظة أو الدعوة إلى التحرّر.
يندرج هذا الإصرار على تعهّد مدلولي الأصالة والتفتح بإعادة التعريف في صميم الإرث النضالي التونسي سياسيا كان أم اجتماعيا، حتى وأن وجد نفسه اليوم أمام وضعية فارقة يتجاوز إطارها الواقع المحلي الضيق ليضرب للبلاد عامة موعدا مع التاريخ. وتُمثل الحرية وعمادها المواطنة القيمة المشتهاة تحت سمائنا، هذا الحلم الطموح هو ما راود التونسيين حال ظهور أول دساتيرهم في بداية ستينات القرن التاسع عشر، وهو ذات الحلم الذي تضمنه دستور الجمهورية في أعقاب تصفية الاستعمار وإلغاء الـمُلكية عند خمسينات القرن الماضي.
ولئن انخرط ما نعيشه اليوم ضمن نفس الأفق باعتبار مأزق استكمال بقية الاستحقاقات الدستورية وتحديد ضوابط المنافسة وسقف الصراع أيضا بين مكونات المشهدين السياسي والمدني، فإننا نعتقد أن طبيعة المرحلة التاريخية الجديدة تقتضي الانتقال بالممارسة السياسية إلى أفق بديل يلغي الشرعية عن جهاز الدولة خارج إطار ضمان الحريات الفردية.
• في الموروث الحضاري للتونسيين:
ولنا أن نتساءل في ظل تصحّر المشهد السياسي التونسي منذ ستينات القرن الماضي عن مشروعية الدعوة إلى إنجاز نقلة في الممارسة السياسية والحال أن استبطان الحداثة لا يزال حكرا على غرب جحود ومتغوّل. إلا أن مثل هذا الاستفهام لا يصمد أمام التحولات السريعة الناجمة عمّا حدث تونسيا واستتباعات ذلك عربيّا وكونيا. فالبيّن أن انتزاع الشعوب لحريتها قد طال مجالا جغرافيا وسياسيا ساد الاقتناع غربا ولزمان بعيد أنه غير مؤهل للعيش خارج وصاية دولة الاستبداد الشرقي ذات النوازع الابوية الصارخة، لذلك فإن ما نعيشه اليوم ضمن المجال العربي عامة يؤشر وبطريقته الخاصة عن الصعوبة الحقيقية التي تصادفنا في تعريف مدلول الشرعية وممارسة الحكم، وهي صعوبة لا يمكن ألاّ تذكّرنا بما جد خلال القرن الثامن عشر أوروبيا حال تزايد الخوف من الحكم المطلق كشكل مرضي لممارسة السلطة السياسية، وكذلك الأمر حال وضع الحرب العالمية الثانية أوزارها وتزايد الوعي داخل العالم الحرّ بضرورة القطع مع الكليانية في مظاهرها المتباينة يسارا أو يمينا.
يحيل المجال التونسي، وهو إطار جغرافي لم يكن وعلى وضوح حدوده وبداهة الاستناد إليها حاضرا، بتلك الصفة حتى بداية النصف الثاني من القرن التاسع عشر موعد ظهور أول تمثيل خرائطي للبلاد التونسية سنة 1857 على تساؤلات تتصل بمضمون الثقافة المادية وبطبيعة الحساسيات الفكرية والعقدية أو الروحية. كما أن التدقيق في خصوصيات ذلك المجال الجغرافي يحيل بالضرورة على خصوصياته الطبيعية كما على الإرث البشري المتصل بتاريخ التعمير وبمختلف الحضارات التي تعاقبت على ذلك المجال الجغرافي والتي شكلت منجزاتها الحضارية والفكرية ذائقة كبار أعلامه من ماغون صاحب كتاب الفلاحة، وأبولي مؤلف كتاب المسوخ أو الحمار الذهبي، وسانت أوغستين واضع كتابي مدينة الله والاعترافات، إلى خير الدين مهندس أقوم المسالك، وإتحاف أحمد ابن أبي الضياف، وتحرير محمد الطاهر بن عاشور وتنويره، وسدّ محمود المسعدي وتأصيل كيانه، مرورا بمدونة سحنون، ورسالة ابن أبي زيد، وموافقات الشاطبي، وعبر ابن خلدون، وتفسير ابن عرفة ومختصره.
بلورت هذه الخصوصيات مادية كانت أم لا مادية إشكالية حارقة لا تزال تعتمل بضراوة، مشكّلة ما قد تستقيم تسميته بشخصية التونسيين الأساسية أو رصيد ذاكرتهم الجماعية. وتتلخّص تلك الإشكالية في العلاقة التي تربط مُحدث التونسيين بقديمهم. فقد خضعت العلاقة بين مختلف مركبات النسيج العرقي والاجتماعي التونسي إلى حضور صراع بين جناحين متباعدين، إن على صعيد التصوّر أو فيما يتصل بالمنجز الحضاري. فبينما يبدو أحد هذين الجناحين حريصا على الانصياع إلى موروث السلف الموسوم بالانغلاق والتحجر، يبدو الثاني مدفوعا إلى الانقلاب على رتابة ذلك الموروث عاملا على جَبِّهَا حتى وإن دفعه ذلك التصرّف إلى السقوط في التفسخ وتلمظ مرارة الاغتراب.
ليس هنالك من مجال للفعل إلا وقد لوّنه ذلك الصراع بين هذين الجناحين، فـ«البرانس» من البربر الأفارقة قد تهيّبوا من هجمات «البتر» المتنقلين، والمدرسة المسيحية الإفريقية قد واجهتها نحلة المزارعين «الدوناتيين»، وأهل السنة المالكية قد عانوا من انتفاضات الخوارج ومحن «أهل التشريق» من الفواطم أيام حكم العبيديين والزيريين، وإسلام «أهل الحق والجماعة» المنسوب إلى المالكية قد ورّطه إسلام أرباب الولاية والصلاح الموغل في وجدانياته النزقة والمنفرطة.
• الدولة المخزنية: الثوابت والتحولات
يشكّل تراجع العصبية بعد استكمال القبائل العربية الوافدة على البلاد التونسية لاستقرارها في حدود القرن السابع الهجري/ 13م وقد عوّضه الولاء على إثر الضربات الموجعة التي كالتها لها دولة "المخزن" (عنوان السلطة داخل مجال المغارب منذ حكم الموحدين) لذلك التجاء المُلْكُ إلى «الجاه» وهو في تعريف ابن خلدون (ت 1406م): «القدرة الحاملة للبشر على التصرّف في من تحت أيديهم من أبناء جنسهم بالإذن والمنع والتسلّط بالقهر والغلبة»، مما أكسب صاحب السلطة إحساسا بالجلال، وزاد في اعتقاد الكافة من رعاياه أن كل مقرّب منها حاصل بالضرورة على منتهى الكرامة والمجد. فـــ «فاقد الجاه - وفقا لمنطوق البيان الخلدوني –» وإن كان له مال... يسير إلى الفقر والخصاصة ولا تسرع إليه الثروة وإنما يرمق العيش ترميقا.
هذا التمثّل الـمَرَضِي لتغوّل السلطة المسنودة بالجاه هو ما يفسر في تقديرنا تحوّل مجال السلطة السياسية إلى بؤرة ضوء مُشعّة شكل القرب منها على الدوام وعدا صريحا بموفور العزة وواسع الثراء في ثقافة المغاربة السياسية، سواء ضمن التجارب المتعاقبة للسلالات التقليدية الحاكمة أو حتى في العديد من تجارب الدول الوطنية الحادثة بعد تصفية الاستعمار.
لقد كان واضع «تاريخ العبر» على يقين من أن مجال التجديد قد فارق حضارة العرب بعد دخولها مرحلة الانكفاء والتراجع والانحدار منذ القرن الرابع عشر الميلادي، لذلك عمد إلى تشخيص الخلل وتحديد الأسباب التي أدت إلى انقلاب الأوضاع من خلال حوصلة أحداث الماضي واستنتاج ما حوته من عِبَرٍ، شكلت الأنساب، وأنواع المعاش، وكيفية التداول على الملك، واحتكار الوازع والجاه، العناصر الناظمة لها. فقد تم تشغيل المُلْكِ كمحور للحراك السياسي حدّد تداول الأمم للوازع، ذاك الذي ارتهن في ذهن ابن خلدون بالحفاظ على قوة العصبية واحتكار الجاه بغية النجاح في الاضطلاع بدور الوساطة بين نظامي العمران البدوي والحضري.
ومهما يكن من أمر فقد حمل «إتحاف» ابن أبي الضياف (ت 1874م) صدى غير خاف لمختلف هذه التصوّرات، ذلك أن ما سماه بـــــ «رياح الوطن» قاصدا بذلك «الوطن التونسي» و«القطر التونسي» و«أرض تونس» وهي تسميات تكرّرت في الإتحاف، هو ما دعاه بعد أن استوفى صياغة لوائح وبنود الدستور إلى التصدي لمشروع مدونته التاريخية التي امتدت عملية تحريرها على عشر سنوات بالتمام والكمال (1862 – 1872). حيث بسط المحرّر القول في ما حرّفته الأقلام المأجورة بخصوص مسار تقييد الملك بقانون ضمن تجربة أمراء السلالة الحسينية بتونس.
شدّد صاحب الاتحاف على ضرورة مراعاة ما أسماه بــــ«حال الوقت» في مسار التدرّج في تطبيق «نظام الملك المقيّد بقانون» ناقلا عن ابن خلدون حججه في التمييز بين الخلافة والملك، مجيزا «الإنكار» وهو في راهن مدلوله حق إبداء الرأي في جميع المسائل المتصلة بالشأن العام عبر المشاركة في عضوية المؤسسات التمثيلية، معتبرا إهمال المسلمين لذلك سببا من أسباب ترديهم، رابطا بين ما نعته بـــ«المُلك المطلق» المخالف للشرع والحكم القهري كما وصّفه البيان الخلدوني، ذلك الذي تتسع معه رقعة البداوة وتزول به فضائل المواطنة من نفوس الرعايا.
ولئن لم يشر مدلول الوطن بالقياس لمدلول الأمة في آداب المسلمين إلا لمكان الولادة ولم يتم تعقّل مصطلح «ثورة» كذلك إلا بمعنى الفتنة والفوضى والتقاتل نظرا «للبلبلة العظيمة» التي أحدثتها الثورة الفرنسية من منظور كثير من مصلحي البلاد العربية، فإن الحاجة إلى ذلك الإصلاح هي ما أعطى للانتقال التدرّجي غير العنيف مكانة أرقى في ذهنيات النخب المتعلّمة المستبطنة لمدلول طاعة السلطان وخدمته، مقارنة بتهيبهم من معاضدة جميع أشكال التغيير الجذري أو العنيف. وجميعها تصوّرات يسهل العثور عليها لدي عدد من مؤرخي المشرق والمغرب ممن شكّلت تجربة الكتابة لديهم صدمة حقيقية وانسلاخا عن الاكتفاء بمتاح الفكر التقليدي، تشوّفا إلى إعادة امتلاك مقوّمات تفكير النهضة الأوروبية على غرار «عجائب الآثار» لعبد الرحمان الجبرتي (ت 1826م) و«الاستقصاء» لأحمد بن خالد الناصري (ت1897م) على سبيل المثال لا الحصر.
والبيّن أن التصوّرات التي تضمنتها «مقدمة» الإتحاف الطويلة لم تشذّ عن هذه التوجهات، فقد التزم ابن أبي الضياف سواء من خلال تعريفه أو مناقشته لما أسماه بـــ «أصناف الملك في الوجود» بمبدإ توافق ما ندبه من الإصلاحات السياسية مع مبادئ الشريعة الإسلامية، متهيّبا من مغبة التعبير عن أي تصادم مع مقاصدها، مُقسّما الوازع ومعناه القوة الرادعة أو الغلبة إلى خلافة وملك، معتبرا أن أصناف [هذا الأخير] في الوجود لا تتعدى أنماطا ثلاثة.
ويعتبر مؤلف الإتحاف ضمن تعريفه بأصناف الملك في الوجود وهي: الملك المطلق، والملك الجمهوري (وهو لَبْسٌ مقصود تحاشى من خلاله المؤلف التصريح بمعقولية وجود حكم جمهوري يكتفي بذاته عن اشتراط حضور خليفة)، والملك المقيد بقانون شرعي أو عقلي أو سياسي، أن «طباع الاستبداد» منافية «لإمكان التغيير» مما يستوجب شرعا وعقلا مجابهتها بــــ «الانكار» و«المنع» دون حاجة إلى الدخول في الفوضى أو التعويل على العنف. كما يفرّق في حصول الجور بين «اليد المبسوطة التي لا تعارضها القدرة» في ظلم السلطان للرّعية، وبين «استعمال الإخافة لأخذ الأموال من قبل أهل الحرابة والعدوان»، لأن «المدافعة بيد الكل موجودة شرعا وسياسة»، في حين أن لجوء الحاكم إلى «العدوان على الناس في أموالهم ذاهب [مثلما بيّن ذلك صاحب تاريخ العبر] بآمالهم في تحصيلها.. فإذا ذهبت.. انقبضت أيديهم عن السعي في ذلك.. وقعد الناس عن المعاش وكسدت أسواق العمران.. وهو القدر المؤذن بالخراب». فيتخلّق الناس تبعا لذلك بطباع التوحش المنافي للعمران، وتفضي شدة التعدّي والقهر في جباية المال إلى نقص في «الكماليات الإنسانية» لدى الرعايا، فينسلخوا عندها من طباع الأحرار وتنتفي عنهم الشجاعة والإباء والمروءة وحب الأوطان والغيرة عليها.
ولئن بدا لنا صاحب الإتحاف مدركا للتصوّر الخلدوني بخصوص الدورة الطبيعية لحياة الدول، وفاهما لعلاقة قيامها بالغلبة والعصبية، وآليات انهيارها المشدودة إلى إضعاف تلك العصبية قصد الانفراد بالمجد وانقطاع كل أمل في اكتساب الجاه خارج المحيط القريب من المُلك، فإن مثل تلك الدورة المؤسِسَة لا تصح من وجهة نظره في غير سلاطين المسلمين، لأن دول الفرس أو ممالك النصارى وفق تعبيره – تلك التي: «وقف ملوكها عند حدود العقل»- غالبا ما امتدت حياتها على مدى قرون متعاقبة. وهو ما ينهض حجة على أن قراءة ابن أبي الضياف لمساوئ الإطلاق في الحكم لم تكتف بترديد قوانين العمران كما تفتقت عليها عارضة ابن خلدون، بل حاولت اختبار مدى إجرائية تلك القوانين في ضوء طارئ مكتسبات عصر النهضة ومقتضيات الإصلاح السياسي، الأمر الذي سمح له بتجاوز مدلول الشرعية المبني على الغلبة المستندة إلى الدين، معتبرا وفي إلماع ذي دلالة بليغة أن التمادي في الجور مؤذن بإلغاء الحاجة إلى الملك. أما الدساتير أو القوانين فمعتَبَرة بما يُقصد منها من ترتيب الأمور، وهو أمر شدّدت عليه شهادات غيره ممن أسعفهم الحظ بمعاينه أوضاع ممالك الغرب المتطورة وتدوينها على غرار الشيخ رفاعة الطهطاوي والمصلح خير الدين. ولعل أبلغ ما تم إيراده بهذا الصدد هو الدعوة إلى التدرّج في سن القوانين تحقيقا لمقصد العدل، تأسيا بالخطط المتّبعة من قبل الدول القوية عبر التمسّك بالاستقامة وتوسيع دائرة العيش بإقامة المشاريع والزيادة في الإنتاج وفتح باب المتاجرة بعد تأمين مسالكها البرية والبحرية والحديدية. ويسوق ابن أبي الضياف من بين الشروط الجديدة لشرعية الفعل السياسي وجوب تأسيس مجلس نيابي يتمثل دور أعضائه المنتخبين بالاقتراع في «الوكالة على العامة حفظا لحقوقهم الإنسانية بغير خروج عن الطاعة»، لأن الممالك «لا تكون على نهج الاستقامة إلا إذا كانت الدولة طالبة ومطلوبة»، والدولة المقيدة بقانون «طالبة لما لها من الحقوق الملكية ومطلوبة بما عليها من الحقوق القانونية».
• في حدود إيجابيات إيديولوجيا الإصلاح تونسيا
يتعين التفطّن في جميع ما سقناه إلى انعكاس هذا التجاذب بين التمسك بالقديم والإقبال على المحدث عبر استحثاث نسق الإصلاح، أو انطباعه على مؤسسات التحصيل المعرفي التونسية المنتجة للنخب السياسية أو العالِمة. فقد بدا واضحا منذ أواسط القرن التاسع عشر أن التعليم الرسمي الزيتوني قد اختُرق من قبل روافد عدّة تزايد تأثيرها بعد طي تجربة المدرسة الحربية سنة 1864 وإنشاء المدرسة الصادقية سنة 1875. كما زاد الحضور الاستعماري الفرنسي في حدة تلك المواجهة بعد مؤازرته تأسيس جمعيتي الخلدونية سنة 1896 وقدماء المدرسة الصادقية سنة 1906، فضلا عن توفير معهد كارنو الموسوم بالفرنسة فرصة للمتخرجين منه والحاصلين على شهادة الباكالوريا لاستكمال التكوين المتخصص بجامعات ومعاهد الدولة المستعمِرة .
طال الصراع بين قديم ومحدث الواقع الحركة الوطنية من خلال انقسام حزب الدستور بعد سنة 1934 إلى تنظمين متباينين تمكن أحدهما من التغوّل على حساب الآخر، مشكلّا وبالتدرّج قطب جذب لم تستطع مختلف ألوان الطيف السياسي والنقابي والحقوقي والنسوي بل والثقافي التونسي الخروج عن تأثيره سلبا وإيجابا على مدى الثلاثة أرباع قرن الماضية.
فكل قراءة متأنية في سير غالبية الفاعلين السياسيين والنقابيين والطلابيين والفكريين أو الثقافيين وغيرهم، سواء خلال فترة الكفاح ضد الحضور الاستعماري أو حال تشكّل الدولة الوطنية واحتكارها لتصريفها الشأن العام، تكشف بيسر عن هيمنة حزب الدستور، الذي انصهر بعد الاستقلال مع الدولة، عامدا إلى توظيف شرعيته النضالية لتبرير إخفاقاته السياسية والاقتصادية على مدى خمسة عقود من بناء الدولة الوطنية.
ومهما يكن من أمر فإن حصول قطيعة مع تلك المنظومة واندراج ذلك ضمن ذاكرة التونسيين الحية بوصفه مفصلة زمنية فارقة قد كشف عن عودة السياسي بعد الإسراف في إقصائه مع العمل على إعادة موقعته بشكل صحي، حتى وإن لم يخل ذلك من وعي بكارثية فراغ الساحة السياسية وانعدام القدرة على استيعاب السياق التاريخي الذي أدى إلى حصول ذلك الضمور المفزع.
فقد حملت عودة السياسي إلى الصدارة في طياتها ذاكرة الممارسة السياسية، وهو أمر بالغ الأهمية يؤشر الحرص على إتمامه على حضور إدراك لقيمة ما انطوت عليه التجربة الشخصية، وكذا الفائدة المنتظرة من تحويلها إلى متقاسم جمعي.
نزعت ذاكرة الممارسة السياسية في إعلانها عن نفسها إلى اكتساح مجال الخطاب السياسي باستعراض تصورات منشدة، ومع تمسّكها بموفور سجل التقاليد قرآنية كانت أم وضعية، إلى إعادة موضعة موقع الفرد في علاقته بالفعل السياسي. فهل نحن إزاء عودة المضامين السياسية الاصلاحية من بوابة الخطاب الوطني كما شكلته التجربة الحزبية الدستورية في إصرارها على إعلاء القيم الفضفاضة للوطن قبل جميع ما سواها؟ أم أن ادعاء التمايز والقطع مع سلبيات تلك المدرسة السياسية عبر التشديد على ضرورة إيلاء الحقوق الفردية موقع الصدارة، تلميح ذو دلالة بليغة لتبدّل الأحوال وإدراك صحي لمسار الشعوب كما الأفراد المضني على درب التحرّر من ربقة المواضعات المفروضة الممثِلة بزعم مروجيها لوجهة نظر الجماعة أو الأغلبية صامتة كانت أم ناطقة؟
إن ما يدفع حقيقة إلى استحضار الواقع المعقد للساحة السياسية التونسية حاضرا هو علاقة مختلف الفاعلين ضمن مشهدها المتشعب المشارب بالخطاب السياسي، من بوابة استعادة استكشاف موقع الفرد ضمن الفعل الجماعي. فخلال سنوات الاستقلال الأولى وحتى نهاية عهدة مؤسس الدولة الوطنية الزعيم بورقيبة لم يكتب لما تمت مراكمته من تجارب - على قيمة ما أنجز بهذا الصدد- أن يتجاوز ومن منظور أفق التعبير عن الفرد، مستوى التشديد على تأصّل تقاليد المركزة السياسية من خلال ديمومة حضور جهاز الدولة وتعرية التوجهات الاستعمارية بالكشف عن تهافت ادعاءاتها بخصوص سيطرة الطابع البدوي على التنظيمات الاجتماعية أو تعارض تعاليم الديانة الإسلامية مع مقتضيات الحداثة. لذلك تم التشديد سياسيا – وكما كان متوقَّعا- على ضرورة استعادة الدولة لهيبتها، حتى وإن لم يشكّل توافق الفاعلين حول مثل تلك الحاجة خروجا فاضحا عن ضوابط العلاقة التي ربطت بين المثقف ورجل السياسة كما أفاض في تحديد مقتضياتها علم الاجتماع السياسي.
على أن ما عاينته الساحة العامة منذ موفى الستينات من استقطاب بين الفاعلين المدنيين ممثلين في مناضلي الحركات الطلابية والنقابية والحقوقية (وخاصة النشاطين الرابطي والنسوي)، وبين الفعل السياسي الموسوم بالاستبداد والإقصاء الممنهج على مدى خمسين سنة، هو ما لوّن في تقديرنا الشخصي عشريات سنوات الجمر السياسي،
محوّلا النضال المدني إلى رهان حقيقي، ومشكلا تجاوزا لمأزق الانتظام السياسي تونسيا. حتى وإن أدى ذلك التركيز على سجل الفعل المدني أكثر من أي شيء سواه، إلى إكساب مسألة «النضالية» بعدا جماليا يرفض أصحابه تحوّل النزول إلى الساحة العامة إلى ممارسة استعراضية مفصولة عن الواقع ليس لها من غرض سوى مزيد التسوية إلى أسفل. وهي حقيقة لم يكن أصحاب القرار السياسي والمحتكرين لصنعه تونسيا وحتى حصول الحدث المفصلي للثورة، ذاهلين عن أهميتها اعتبارا لموقعة الخطاب الرسمي - على إغراقه في الخشبية - ضمن إحداثيات نوّهت تضليلا بفتح مجال الحريات ودعم ثقافة حقوق الإنسان وصون المؤسسات والدفاع عن كونية القيم، مع أخفاق صانعي ذلك الخطاب والمروّجين له في التفطن إلى كارثية الهوة التي فصلتهم فكرا وممارسة عن معاني ذلك الخطاب، وتعطيلهم الصارخ وعبر تشغيل آليات «مخزنة» مستنسخة وانتهازية مَهِينَةٍ لتجدّد النخب السياسية سواء من داخل الجهاز الحاكم أو حتى من خارجه، بحكم الإسراف في التسلّط والمراقبة اللصيقة والوصاية السافرة.
هذا الواقع هو الذي تبدو عناصره وفي غياب أفق يعيد للخطاب السياسي ألقه الإنساني كما صاغ أسسه الاجتماع البشري غربا وشرقا، عصيّة عن الفهم.
وفي انتظار حصول ذلك فإن طبيعة المشهد السياسي التونسي ستبقى مرشّحة وفي غياب الحاجة إلى المراجعة أو المحاسبة الشخصية وابتسار الفعل السياسي وثقافته في تشغيل آليات التخوين والتذنيب واستسهال التعويل على الإثارة الرخيصة، للوقوع في مزيد من اللغط والدفع باتجاه الانقلاب على إمكانيات التوافق المعترِف بالطابع الصحي للصراع وفقا لعبارة ميشال فوكو الرائقة، مع العمل على تحاشي السقوط في المواضعات التوافقية رغبة في التموضع ضمن الصفوف الأولى تحفّزا للاستفراد بالفعل والقرار السياسيين.
أليس في مشهد على هذه الشاكلة عبرة تُستجلى مؤيدها أن السياسة هي في المقام الأول مدرسة للسلوك العملي تكمن عبقرياته بامتياز في استبطان عميق لثقافة المساءلة حال التصدّر لتصريف الشأن العام، مع فتح طريق سالكة لفهم نفسيّة الأفراد استكشافا لما يعتمل في خلد «نحنهم الجمعي»، واستحثاث للقبول بالحلول المنقوصة والتعويل على التبسيط والتكرار وسعة الصدر. إنه فن الممكن يسوس الكافة للقبول بعدم اكتمال الفعل البشري، مع اعتبار السعيّ للاحتساب أو طلب المستحيل مؤشِّرا بليغا عن قلة نجابة في فهم المخاوف واستباق خروجها بالتعاظم عن الضبط.