عنوان quand la chine s’éveillera .. le monde tremblera أو « عندما تستفيق الصين ..يرتعش العالم» عن دار النشر الباريسية Fayard سنة 1973 الكثير من الاهتمام حتى أن رقم مبيعاته وصل بالنسبة للنسخة الفرنسية فحسب قرابة المليون نسخة . وقد كان هذا الكتاب نتيجة لزيارة قام بها بيارفيت إلى الصين سنة 1971 على رأس وفد برلماني فرنسي عندما كان يرأس لجنة الشؤون الثقافية والاجتماعية في البرلمان الفرنسي .
وأهمية هذا الكتاب تكمن في أن الكاتب تنبأ أن الصين سيكون لها شأن عظيم على المستوى بالرغم من الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والسياسية الصعبة التي كانت تمر بها وهي في أتون الثورة الثقافية في بداية سبعينات القرن الماضي . وبالرغم من الظروف الصعبة والتي جعلت من الصين بلدا في طريق النمو وغير قادر على توفير ابسط ضروريات الحياة وخاصة منها الأمن الغذائي لأغلب أبنائه مما جعل الشعب الصيني يعيش المجاعة فإن السياسي الفرنسي قدر أن الصين ستخرج من هذه الأوضاع وسيكون لها دور سياسي واقتصادي هام على المستوى العالمي . وقد برر الكاتب هذه القراءة المستقبلية بحجم الصين الجغرافي والنمو الديمغرافي واللذين يشكلان نقطة قوة هامة ستساهمان في تدعيم موقع الصين في العالم . إلا أن بيارفيت أشار إلى أن التحدي الأساسي للصين سيبقى حصولها على التكنولوجيا الحديثة .
عرف هذا الكتاب نجاحا كبيرا في البلدان المتقدمة باعتباره كان من الأوائل اذ أشار إلى قرب نهاية هيمنة بلدان المركز الرأسمالي على العالم وبداية ظهور قوى جديدة ستنافسه على هذه الهيمنة .
رجع بيارفيت عديد المرات للصين بعد زيارته الأولى وقد اصدر كتابا جديدا عند نفس الناشر بعنوان «la chine s’est éveillé» أو «الصين استفاقت» ولم يكن للكتاب الثاني نفس نجاح الكتاب الأول باعتبار أن عديد الدراسات كانت قد صدرت لتشير إلى النجاحات التي حققتها الصين والتي جعلت منها قوة اقتصادية صاعدة نتيجة الإصلاحات الاقتصادية الكبرى التي قامت بها تحت قيادة دنغ كسياوبنغ Deng Xiaoping والذي يعتبره أكثر الملاحظين أب النمو الاقتصادي والخروج من التهميش والفقر والتبعية .
أشرت في بداية هذا المقال لكتاب السياسي الفرنسي الأثير في المسار التاريخي الهام الذي عرفته الصين في اقل من نصف قرن لتمر من واقع التخلف والفقر إلى قوة اقتصادية كبرى ترهبها البلدان المتقدمة . وأصبحت الصين اليوم تثير مخاوف البلدان المتقدمة التي أصبحت ترتعد كما كتب السياسي الفرنسي منذ خمسين سنة كلما جاء ذكرها وأمام النجاحات الكبرى التي تحققها منذ سنوات . فالصين أصبحت اليوم ثاني قوة اقتصادية في العالم خلف الولايات المتحدة الأمريكية ويتوقع عديد الخبراء أن تتجاوز بلاد العالم سام في السنوات القليلة القادمة .
وكانت هذه التطورات والمكانة والمراتب المتقدمة التي وصلتها الصين في الاقتصاد العالمي في السنوات الأخيرة وراء الكثير من القلق والمخاوف عند العديد من الخبراء والمؤسسات في البلدان المتقدمة . فقد أشار البعض إلى أن بروز الصين إلى جانب عديد البلدان الصاعدة الأخرى كالهند وإفريقيا الجنوبية والبرازيل وكوريا الجنوبية وغيرها هو إيذان بنهاية الهيمنة الغربية على الاقتصاد العالمي وتحول مركز ثقل الاقتصاد العالمي إلى الشرق والآخر والذي ظل مهمشا منذ ظهور النظام الرأسمالي .
وهذه المخاوف مردها لا فقط إلى النسب المرتفعة للنمو الاقتصادي التي تحققها الصين منذ سنوات بل كذلك إلى الاستثمارات الكبرى والنجاحات التي حققتها في ميادين البحث العلمي والتكنولوجيات الجديدة مما سمح لها بتبوؤ مكانات متقدمة في القطاعات الصناعية الجديدة أو الصناعة 4.0 . هذه التطورات والنجاحات زادت من قلق ومخاوف البلدان المتقدمة التقليدية والتي اعتبرت الصين والبلدان الصاعدة بصدد قلب وبعثرة بطريقة راديكالية النظام العالمي الذي تم بناؤه منذ الثورات الرأسمالية والبورجوازية في نهاية القرن الثامن عشر والذي مكن هذه البلدان من بسط هيمنتها على العالم . وهذه التطورات تنبئ حسب البلدان المتقدمة بنهاية هيمنتها على العالم وتشير إلى الإرهاصات الأولى لظهور عالم جديد سيفلت من سيطرتها .
وستعمل الولايات المتحدة الأمريكية وحلفاؤها على التصدي لصعود الصين ومحاولة إيقاف والحد من تأثيرها المتصاعد على العالم .فطالبت بإيقاف بيع التكنولوجيات الحديثة للصين كما شهدناه مؤخرا مع الجيل الجديد للهواتف الجوالة أو الهواتف 5.0 كما انطلقت الإدارة الأمريكية وبصفة خاصة منذ وصول الرئيس دونالد ترامب في حرب تجارية حامية الوطيس هدفها فتح الأسواق الصينية أمام الصادرات الأمريكية .
إذن كانت النجاحات الصينية وتنامي تأثيرها وراء مخاوف كبير ة من قبل الولايات المتحدة الأمريكية والبلدان المتقدمة التقليدية . إلا أن الغريب أو المفارقة اليوم هي أن صعوبات هذه البلدان هي وراء مخاوف جديدة في المؤسسات الدولية وعند اغلب البلدان المتقدمة وبصفة خاصة الولايات المتحدة الأمريكية . فقد عرفت الصين في السنوات والأشهر الأخيرة تراجعا كبيرا في نتائجها الاقتصادية مما أثار الكثير من القلق والضيق بسبب انعكاساتها على الاقتصاد العالمي والذي لم يستعد للآن عافيته منذ الأزمة الاقتصادية العالمية لسنوات 2008 و2009.
لقد عرف الاقتصاد الصيني على غرار اغلب البلدان الصاعدة مستويات نمو عالية منذ بداية الألفية . وقد مكنت هذه المستويات لا فقط من تحسين الوضع الاقتصادي لهذه البلدان وخروجها من خانة البلدان المتخلفة ونهاية تبعيتها بل كذلك في دعم ودفع نمو الاقتصاد العالمي . وقد حافظت الصين واغلب البلدان الصاعدة على مستويات النمو العالية والتي كانت برقمين في بعض السنوات حتى اثر الأزمة المالية العالمية لسنوات 2008 و2009 مما مكن الاقتصاد العالمي والبلدان المتقدمة من تفادي انعكاسات أكثر حدة لهذه الأزمة كالتي عرفناها اثر أزمة 1929.
إلا أن الأوضاع تغيرت في السنتين الأخيرتين حيث تراجع مستوى النمو في اغلب البلدان الصاعدة وبصفة خاصة في الصين . فقد تراجع النمو عن مستوياته خلال الفترة الذهبية ليصل إلى %6.6 في نهاية سنة 2018. وهذه النتائج هي بعيدة كل البعد عن أداء الاقتصاد الصيني في السنوات الاخيرة وفتحت فترة جديدة في التاريخ الاقتصادي الصيني الحديث أو ما سماه بعض الخبراء والمؤسسات الدولية «the new normal» أو «الوضع الطبيعي الجديد» للاقتصاد الصيني بعد سنوات النمو المرتفع والكبير .
وكان لهذا الهبوط للنمو انعكاسات كبيرة في الصين مع تصاعد البطالة . فلقد اعتبر بعض الخبراء انه يجب على الاقتصاد الصيني تحقيق نسبة نمو بـ7 % حتى يتمكن من استعادة قوة العمل الجديدة القادمة للسوق . وقد نتج عن تراجع النمو ارتفاع في نسبة البطالة والتي ارتفعت من 4.9 % في نهاية سنة 2018 إلى 5.3 في الأسابيع الأولى من سنة 2019.
إلا أن التخوف الكبير من هذا الوضع الطبيعي الجديد للاقتصاد الصيني يخص انعكاساته على الاقتصاد العالمي . لفقد حذرت عديد الدراسات والمؤسسات الدولية من مخاطر هذه التطورات وانعكاس تراجع النمو في الصين على الاقتصاد الدولي باعتبار الأهمية التي وصل إليها الاقتصاد الصيني على المستوى العالمي حيث تمثل الصين 15 % من الناتج العالمي الخام و10% في التجارة الدولية . هذا الوزن الكبير للصين في الاقتصاد العالمي يفسر تخوف وقلق الخبراء من الانعكاسات الدولية لتراجع الاقتصاد الصيني حيث تشير بعض الدراسات إلى أن النمو العالمي تراجع بـ%0.4 في سنة 2018 نتيجة لذلك . وستكون هذه الانعكاسات هامة باعتبار الوضع الذي يعيشه الاقتصاد العالمي وتباطؤ النمو وضعف نسقه منذ الأزمة الاقتصادية العالمية .
تشير الدراسات إلى أن عددا كبيرا من البلدان ستتأثر بتراجع النمو في الصين . وأولها هي البلدان المتاخمة أو القريبة كتايوان وكوريا الجنوبية وماليزيا والتي عرفت اقتصادياتها وخاصة قطاعاتها الصناعية درجة كبيرة من التكامل مع الصين .ثم تأتي البلدان المصدرة للمواد الأولية والتي شكلت الصين سوقها الأساسية في السنوات الأخيرة . إلا أن تراجع الطلب الصيني نتج عنه تراجع كبير للأسعار العالمية للمواد الأولية وهبوط كبير لمداخيل هذه البلدان . كما أن البلدان المتقدمة ستتأثر كذلك سلبا من جراء تراجع النمو في الصين .
لم تبق الحكومة الصينية مكتوفة الأيدي أمام التراجع الكبير للنمو وأخذت بعض الإجراءات للرجوع إلى الوضع الذهبي الذي عرفته الصين في بداية القرن وقد اكد الرئيس الصيني كسي جينبنق xi jinping عند وصوله إلى السلطة سنة 2013 التزامه بتحقيق الهدف الذي رسمه دنق كسيوبانغ أب الإصلاحات الكبرى بمضاعفة الناتج القومي الخام في حدود 2020.
وأمام المديونية الكبيرة التي وصل إليها الاقتصاد الصيني والتي بلغت %200 فقد ابتعدت الحكومة عن السياسة النقدية التوسعية واتجهت إلى السياسة المالية من اجل دفع النمو الاقتصادي وعودة الصين إلى مكانها . فقامت الحكومة بالتخفيض في عديد الاداءات من اجل دفع الاستثمار والنمو .
إلا أن هذه الإجراءات تبقى محدودة حسب عديد الخبراء والمتابعين للاقتصاد الصيني . فانعكاسات هذه الإجراءات على الميزانية ستكون محدودة ولن يتجاوز تطور المصاريف نسبة %1.8 بينما وصلت هذه النسبة تقريبا 10% إبان الازمة الاقتصادية العالمية ولما أرادت السلطات الصينية إعطاء دفعة استثنائية للاقتصاد.
يعيش العالم اليوم على وقع تراجع النمو العالي الذي عرفته الصين في السنوات الأخيرة . وهذه التطورات ستفتح مرحلة جديدة في التاريخ الاقتصادي الحديث للصين وهي مرحلة الخروج من الوضع أو الفترة الذهبية للصين إلى «وضع طبيعي جديد» يتميز بتراجع النمو وضعفه .ولئن أثارت الفترة الذهبية للصين الكثير من المخاوف والقلق أمام صعود الصين في الاقتصاد العالمي وبداية وضع حد لهمينة القوى الرأسمالية التقليدية فان تراجع النمو كان وراء ظهور نوع جديد من المخاوف ناتجة عن انعكاسات هذا الوضع على الاقتصاد العالمي ومساهمته في تأبيد الأزمة الاقتصادية العالمية وحالة الركود على المستوى العالمي .
هذه الآراء والتحاليل تشير إلى الأهمية الإستراتيجية التي وصلتها الصين على المستوى العالمي والانعكاسات الهامة لتطور اقتصادها على العولمة . فعندما « تستفيق الصين .. يرتعد العالم» كما قال السياسي والكاتب الفرنسي آلان بيارفيت منذ نصف قرن وكذلك عندما «ترتعش الصين .. يرتجف العالم».