هو مبادلة المال بالحرية وبالكرامة. يخضع الناس لمؤسسات تحكم دون سقف زمني محدد وهي في الغالب مؤسسات عسكرية تستفيد من إشرافها على توزيع الغنائم. تصبح الغنيمة ثقافة لدى الجميع ولكل نصيب حسب دوائر الولاء والزبونية. مقولة الشيخ والمريد هي المقولة التي تنظم علاقة الحاكم بالمحكومين.
الأدهى من ذلك أن الإهانة الريعية تضرب في مقتل. هذا المقتل هو قيمة العمل والسعي الجدي من أجل الكسب وخلق الثروة. الكسل هو البديل لكل شيء تقريبا، كسل في العمل وفي الإبداع وفي صناعة تنمية مستدامة ترتكز على عنصر بشري دائم التوق إلى ما هو أفضل. تعتقد سياسات هذه الدول أن توفير السيولة المالية لمواطنيها تكفي لشراء صمتهم. ولكن الأحداث التي تقع في الجزائر الآن تُكذب هذه الفرضية. فالحراك الشعبي لم يكن مرتبطا فقط بصعوبة الحياة وبالظروف الاقتصادية المنتكسة. هذا موجود طبعا ولا يمكن التقليل من شأنه.
مقولة الإهانة هي قلب المأزق وهي التي تحدد الجغرافيا العاطفية للناس في علاقتهم بأنفسهم وفي علاقتهم بالسلطة السياسية التي تدير شؤونهم. ينبع الشعور بالإهانة من تحولات مجتمعية عميقة أفرزت فردانية تتساءل حول مصيرها وحول دورها في بناء المجتمع. الفرنسي « دومينيك موييزي» يضبط خارطة للمشاعر في العالم. لم تعد الموارد الباطنية ومنها النفط هي التي تشكل قوة الدول. تلك مسألة بدأ الزمن في تجاوزها. هناك الشعور بالخوف في أوروبا وفي أمريكا الشمالية مرده الخوف المتواصل من الأزمة الاقتصادية ومن الإرهاب ومن حركات الهجرة التي تغير المعطيات الديموغرافية. وهناك الشعور بالأمل وبالفخر وهو حال الدول الآسيوية الصاعدة والتي ترى نفسها ذات موقع متميز في تشكيل منظومة العلاقات الدولية. وهناك في الأخير عالمنا العربي الذي يعيش شعورا بالإهانة متأتية من أنظمة استبدادية لا تعير اهتماما لمواطنيها في ظل سياسات تنموية فاشلة وفي ظل بطالة شباب عالية وتعليم مترد ومؤسسات متهاوية متزامن مع عولمة مكنت من بناء المقارنات وعمقت من نرجسيات الفروقات الصغيرة كما يقول «فرويد».
ما يقع في الجزائر الان هو نموذج لمواطنين انتفضوا من أجل درء الإهانة في كل معانيها أو درء «الحقرة» كما هو منطوق به. هو الردُ على إهانة بإهانة. إهانة منظومة ريعية سقطت بمفعول إهانة منظومة حقوقية ومواطنية تائقة إلى الكرامة وإلى الحرية. وهنا لا بد من التذكير أنه عندما وقعت الثورة في تونس كان أغلب المحللين يتحدثون عن الخصوصية الجزائرية. وتعني هذه الخصوصية أن الجزائر الذي عاش عشرية التسعينيات أو عشرية سنوات الجمر وما خلفته من مآسي غير مستعد للدخول في المجهول وأن ما يعني تونس لا يعني بالضرورة الجزائر.
بعد ثماني سنوات يجد الجزائر نفسه أمام وضعية مشابهة وهي أن الناس لم يعودوا متحملين ما يكفي من الإهانات. كانت الشرارة الأولى تقديم رئيس عاجز مرة خامسة لترشحه. يعرف الجزائريون طبعا أن أيادي من وراء الستار تدير العملية السياسية وأن لوبيات الإهانة الريعية هي المتحكمة في مفاصل الدولة وفي مستقبل المواطنين.
من هم المهانون؟
إنها ليست فقط الشرائح الشبابية التي تعاني كل مظاهر التهميش والتي تعيش على الوعود الريعية بالحصول على قرض أو سكن اجتماعي. إنها أيضا شرائح أخرى من الطبقة الوسطى العالية والحضرية، من الجامعيين ورؤساء الجامعات والطلبة ومتقاعدي المؤسسة العسكرية و منظمة المجاهدين الذين يطالبون بغنيمتهم من الريع النفطي وكذلك من المثقفين والناشطين السياسيين من الأحزاب والإعلاميين دون أن ننسى بعض النافذين في مؤسسة المخابرات المبعدين من السلطة والذين يحركون شبكات علاقاتهم من أجل إهانة الرئيس الذي بدوره أهانهم في مرات سابقة عندما بنى نفوذه منذ 2014 بعيدا عنهم متحالفا مع قوى اقتصادية صاعدة تمثلها فئة من رجال الأعمال النافذين. هؤلاء جميعا يواجهون إهانات مختلفة المحتوى ولهذا سيتعاملون معها بأشكال مغايرة. وهذا ما يفسر إلى حد ما سلمية التظاهر.
تبحث الجزائر اليوم عن شكل جديد من التعاقد الاجتماعي، التعاقد القديم الذي تأسس بعد ثورة الإستقلال لم يعد مجديا الان. أشياء عديدة تغيرت في الأثناء منها ما يتصل بالقوى الاجتماعية الصاعدة وأهمها الشباب في سياق فرداني يضع جانبا إكراهات البنى الاجتماعية المختلفة. ولكن يبقى المأزق الأساسي هو كيفية بناء هذا الميثاق الاجتماعي الجديد بمقولتين لم يكن لهما من قبل أية علاقة، نتحدث هنا عن مقولة الريع وعن مقولة الديموقراطية.
وصلت إهانة الرئيس مداها حين جاء في إحدى لافتات التظاهر « إكرام الميت دفنه وليس انتخابه». وردا على هذه الإهانة المجازية وعلى تجذر رقعة الغضب قدم الرئيس استقالته ولكنه في السعي إلى التخفيف من وطأتها أردفها بخطاب الصفح وهو خطاب عاطفي أكثر منه سياسي. يريد خطاب الصفح هذا أن يذهب بالإهانة التي تلقاها إلى النصف ولكن الشعب الجزائري على ما تظهره الأحداث غير مهتم إلا بإهانة النظام التي يريد أن يقتلعها من الجذور. إهانة أسقطت إهانة و «حقرة» أسقطت «حقرة» هذا هو حال الجزائر الآن في انتظار ما ستؤول إليه مقتضيات «سوسيولوجيا الإهانة».
بقلم: محمد جويلي