التي تحرك أجندات القوى العظمى في تشكيل السياسة الدولية. ولا حتى خرائط الجيوش والأساطيل الحربية مثيرة كما كانت إبان الحرب الباردة. ولم تبق خرائط الكاكاو والسوجا والأرز خرائط ملهمة للمتحكمين في الغذاء العالمي كما كانت. بنوك الجينات والهندسة الوراثية أفقدتا ما بقي منها من طعم ومن رائحة.
وحدها خرائط للمشاعر مثيرة للاهتمام الآن. خرائط لا تقاس بالحدود ولكنها تقاس بالمعنى، لا تمتلك بورصة كما تمتلكها الموارد الأخرى. ولكن أسهمها في تصاعد جنوني لأنها تكشف عن المزاج العام للشعوب وليس عن المزاج العام لرائحة البترول ورائحة الدولار. مزاج الشعوب عصي عن الضبط عندما ينفلت من عقاله.
كيف تتوزع المشاعر بين الشعوب في وقتنا الحاضر؟ العلوم الإنسانية والاجتماعية هي التي أعادت للمشاعر قيمتها التحليلية سواء لدراسة العلاقات بين الأفراد وتفاعلاتهم أو للنظر بعمق في التحولات العميقة في العلاقات بين الدول. العلوم الاقتصادية تفطنت بشيء من التأخير إلى أن الاقتصاد لم يعد سلوكا عقلانيا فجّا، المشاعر هي أحد أركانه الجديدة في التسويق والدعاية وفي الاقتصاد التضامني أيضا.
يقترح " دومينيك مويزي" خارطة جيوسياسية للمشاعر يقسمها إلى ثلاث مناطق " مشاعرية " كبرى. الخوف في أوروبا وأمريكا الشمالية، الأمل والفخر في أسيا والشعور بالإهانة في العالم العربي والإسلامي.
المنطقة الأولى هي منطقة الخوف. وهي فضاء سياسي للمخاوف المتبادلة بين الناس تظهر في شكل مزاج عام يقودهم إلى تشكيل المواقف الانتخابية والاحتجاجية. منطقة الخوف هذه هي الغرب الأوروبي والشمال الأمريكي. يتأتى الخوف من الآزمة الاقتصادية، من الإرهاب، من التهرّم السكاني، من الموجات الهجروية، من تراجع فكرة الوحدة الأوروبية، من تراجع القيم الديمقراطية، من صعود اليمين المتطرف، ومن تراجع ريادة أمريكا أمام الصين واليابان. هذه بعض مصادر الخوف التي تشكل وعي الأفراد وتفرض على الحكومات ضرورة تبديد هذه المخاوف عبر سياسات حمائية وأخرى عدوانية. الشعبوية التي اكتسحت دولا عديدة في العالم الغربي ما هي إلا تمرين على إرساء المشاعر بديلا عن الأفكار الكبرى والإيديولوجيات السياسية الخلاقة.
منطقة ثانية في هذه الخارطة العاطفية هي منطقة الأمل والشعور بالفخر، هي منطقة آسيا التي تعيش نشوة الإقلاع الاقتصادي والديموقراطي، سنغافورة، ماليزيا، الهند، كوريا الجنوبية واليابان نماذج صارخة لهذا الشعور. وتبقى الصين مفاخرة بقوتها الاقتصادية دون أن يكون لها فخر ديموقراطي. الثقة في المستقبل دون مخاوف تذكر هو الشعور الغالب.
المنطقة الثالثة في هذه الخارطة هي المنطقة العربية الإسلامية المهيمنة عليها مشاعر الإحساس بالإهانة. مشاعر الإهانة هي المزاج العام النابع من فشل حضاري متواصل ومن تنمية معاقة ومن استبداد سياسي ممزوج بفساد لا نظير له. بعض زعمائه أعتى من الموت نفسه وحتى بعض الثورات التي نظر إليها كبصيص أمل انتهى بها الأمر إلى خراب. وتحوّل الشعور بالإهانة إلى انكفاء هوياتي قاتل، إلى عنف دام وإلى شبكات إرهابية وقودها من الشباب اليائس.
والبقية، روسيا، بلدان أمريكا اللاتينية وإفريقيا ما وراء الصحراء، هذه دول تمتزج لديها مشاعر الخوف والأمل والإهانة.
هل يمكننا أن نرسم خارطة تونسية للمشاعر؟ ما هي المشاعر الغالبة على مزاج التونسيين بعد ثماني سنوات من الثورة؟ هذا مشروع بحثي في حد ذاته ولكن بعض الملاحظات الأولية ضرورية.
من المؤكد أن مشاعر الإهانة في تراجع. الحرية التي جعلت التونسيين يشاركون إلى حدّ بعيد في تقرير مصيرهم السياسي خفف من وطأة النظر إليهم كرعايا. الشعور بالمواطنة أفضل بكثير ولو كان نسبيا. منسوب الحرية يفعمهم بمشاعر من يمسك إلى حدّ ما بمصيره. مقارنة بما يحدث حولنا إقليميا نحن الأقل شعورا بالإهانة. ولكن خلافا لهذا هناك شعور بالإحباط، إحباط من كان سقف انتظاراته عاليا ولم يجد لها تجسيدا في الواقع. يمتزج الشعور بالإحباط بسرديّة يائسة يشارك الجميع في صياغتها. لا شيء يبعث على الأمل في هذا البلد، لا شيء مفرح في هذا البلد عدا انتصار كروي باهر يقول بعض الناس. المقولات التحليلية للوضع الراهن متأتية في أغلبها من القاموس العاطفي. والاحتجاجات الاجتماعية هي في الآن ذاته احتجاجات عاطفية. ثمة شعور بالقلق أكثر منه شعور بالخوف في معناه المباشر.
تعاش البطالة شعورا بالإحباط أكثر مما تعاش مشكلا اقتصاديا. وتعاش فرديا أكثر مما تعاش جماعيا. ولا ينظر للهجرة السرية وكل أصناف السلوكات المحفوفة بالمخاطر على أنها مشكلات اجتماعية بل ينظر لها كشكل من أشكال الإخفاق الشخصي. والإخفاق الشخصي هو مصنع للمشاعر المقيتة، السخط أولها ، مشاعر فقدان الثقة بالنفس ومشاعر الشعور بالفشل ومشاعر أن يكون الفرد وحيدا أمام التحديات التي يواجهها. النقمة على الذات وعلى المجتمع وعلى الدولة وعلى الفاعلين السياسيين هو الشعور الناتج عن الإحباط. المشاعر المختلفة هذه مخزنة صورا وفيديوهات في الهواتف الجوالة ومنشورة في وسائط التواصل الاجتماعي للذكرى.
هناك في السنوات الأخيرة طلب اجتماعي للحصول على الاعتراف. والاعتراف هو الشعور بأنك تملك المكانة التي ترسمها لنفسك في سياق ما. وهو إحدى المشاعر التي إن فقدت أحدثت سخطا. طلب الاعتراف والحصول عليه في أبعاده الفردية والجماعية وفي بعديه المهني والجهوي وغير ذلك يعد اليوم من دوافع العنف المادي والمعنوي. الأفراد معنيون أكثر اليوم بصيانة مكانتهم عبر الاعتراف من البحث عن تموقع طبقي.
من السهل التحكم في مؤشر اقتصادي ولكن من الصعب التحكم في مؤشر عاطفي ولهذا وجدت الثورات.. العجز في الموازنة المشاعرية أسوأ بكثير من العجز في الموازنة المالية. ومن خرائط السخط إلى خرائط الأمل..