و«دعم الرقابة الاداريّة والتنسيق مع دائرة المحاسبات» من أجل «ترشيد التصرّف والمحافظة على المال العامّ وتطوير أدائه مع تقديم حلول وتصوّرات...». منذ 25 سنة والهيئة العليا تشتغل وتكتب التقارير. منذ ربع قرن وهي تراقب التصرّف العمومي وتستخرج الأخطاء والهفوات وتقدّم الحلول. منذ انبعاثها سنة 1993، تمّ إعداد 24 تقريرا سنويّا. هل كان لهذه التقارير أثر على التصرّف في المال العام؟ هل استطاعت الهيئة بما أتت من رقابة وبما كتبت من توصيّات، ترشيد التصرّف في المال العامّ؟ لا أدري بالضبط ما كان للهيئة من أثر ونفع. لكن أعلم أنّ التصرّف في المال العام لم يشهد تحسّنا مرضيّا وأنّ التقارير المتواترة لم تحقّق الشفافيّة المرجوّة ولا النجاعة في التصرّف... هذا ما أعتقد وأحيانا أخطئ في ما أعتقد. يجب أن أعود الى التقرير. أن أمعن النظر فيه وأرى ما ضمّه من أمر ومن معلومة.
* * *
نظرت في التقرير الأخير للهيئة وفيه مجمل نشاطها لسنتي 2016 و2017. ضمّ التقرير 234 صفحة موزّعة على خمسة أبواب. تصفّحت المجلّد حتّى أرى ما فعلته الهيئة وما قدّمت من مقترحات لمقاومة الفساد ولتمكين القطاع العام من تطوير أدواته وتحسين أدائه.
وجدت التقرير بائسا، ثقيلا. فيه رتابة وتكرار. قراءة التقرير مملّة وقد احتوى على جزئيّات كثيرة وعلى توصيّات وجداول جاءت كلّها على نفس الشاكلة. تتكرّر. في ما أرى، تقطع الهيئة العليا للرقابة الاداريّة والماليّة الشعرة على عشرة أجزاء. هي تطيل الانشاء في ما كان يجب اختصاره. تعيد دون موجب. تدور على نفسها. تسوق الكلام. كذلك، جاء التقرير مملّا.
في التقرير، هناك المتابعة المستنديّة والمتابعة عن قرب والمقاربة الوقائية والخصوصية والنموذجية والرقابة الموجزة والمعمّقة والمجددة الى غير ذلك من التصنيفات الأخرى. عند كلّ عمليّة رقابة، هناك جدول وفي كلّ جدول هناك حصر لعدد النقائص المستخرجة وتوصيّات جاءت في متابعة أولى وأخرى في متابعة ثانيّة ثم نسبة الاصلاح وما تبقّى من الاصلاح الى غير ذلك من الأرقام والاحصائيّات...
جاءت مراقبات الهيئة واسعة، مكثّفة. تمسّ كل الوزارات تقريبا وبعد الوزارات تتولّى النظر في ما كان من تصرّف في ملفّات أخرى كقطاع الطاقة والصحّة العموميّة ثم هي تنظر في أخطاء التصرّف وقد وزّعت على أبواب مختلفة وفي ما أجرت من ندوات ولقاءات أخرى...
جاء التقرير مجزّءا، مفكّكا. لا وحدة فيها ولا جمع. هي متابعات لما حصل من رقابات سالفة ومتنوّعة. لا عمق في النظر ولا استنتاجات مهمّة، شاملة، يمكن اعتمادها لإصلاح ما اختلّ وما جاء من خرق. اتّسم التقرير بكثرة الحالات والتفاصيل دون إمعان، دون تروّ...
* * *
في ما يلي مثال جاء في التقرير وهو في علاقة بقضيّة تزوير الشهائد التي أثارتها، منذ ستّ سنوات، التفقّديّة العامّة التابعة لوزارة التكوين المهني والتشغيل. عند التفطّن لهذا التزوير، تدخلت الوزارة وأحالت الملفّ الى القضاء، في حين امتنعت الوكالة الوطنيّة للتكوين، وفي صلبها حصل التزوير، عن أخذ أي إجراء ولم تقم بالتتبّع رغم علمها بالفساد. تأتي الهيئة العليا للرقابة. تعلم بالإشكال. تتبنّاه وتدلي بدلوها. في صفحة 122، يعيد التقرير مسألة التزوير وما كان حصل منذ 2013. ثم تنتهي الهيئة لتدعو الوزارة «بموافاتها بما آلت إليه القضايا المرفوعة» و«أوصت بالتدقيق... لمنع التزوير مستقبلا».
هل ما قامت به الهيئة هو رقابة؟ كلّ ما فعلته هو تسجيل لما كان وقع من فساد. هي فقط تتابع ما يجري... ما هو النفع الذي أتته الهيئة في قضيّة الحال؟ ما هي إضافتها؟ حصل التزوير في وكالة التكوين. تفطّنت له تفقّديّة الوزارة فأحالت الملف على القضاء. ما دخل الهيئة العليا في الاشكال ولماذا هي تطالب بموافاتها بما سوف يكون من تبعات؟ هذه قضيّة داخليّة لوزارة التكوين والتشغيل وأهل الذكر فيها يتابعون ما يجري فما شأن الهيئة وما الفائدة من تدخّلها في الملف؟ أنا لا أرى نفعا. بل أرى أخطبوط الادارة يتّسع ممّا سوف يزيد الوضع تعقيدا وبطءا... مثل قضيّة الحال تلقاه في العديد من صفحات التقرير.
ثم أنظر في باب آخر، فألقى صورا لندوات ولقاءات تمّت ولا أرى فيها علاقة بالرقابة ولا بالحوكمة ولا بترشيد التصرّف. نظرت في هذه الصورة الملوّنة فوجدتها جميعا تظهر رئيس الهيئة واقفا في الصدارة أو هو يخطب أو هو يسلّم رئيس الجمهوريّة نسخة من التقرير...
* * *
في تونس لنا العديد من الهيئات الرقابيّة. ولأنّها كثيرة العدد دون أن يكون لها شغل كاف، تراها في تنافس بين بعضها بعضا بل هي في مزايدات مضرّة خاصّة مع دائرة المحاسبات التي ذاع صيتها في البلاد. في تقرير الهيئة العليا، رأيت سعيا للتوسيع من الصلاحيّات. هناك مشاريع قوانين ومطلبيّة في إعادة النظر في الأطر القانونيّة حتّى تؤدّي الهيئة المهام المناطة على أحسن وجه وحتّى توسّع في أفق الرقابات..
هذه النزعة التوسّعيّة هي تدبير متعارف. هي حيلة للبقاء في الساحة وللتمكّن من المزيد من الدعائم. مثل هذا التمشّي تلقاه لدى جميع الهيئات والتنظيمات. إنّ الهيئات كالبشر، تراها دوما تجتهد للبقاء، لتوسيع النفوذ والصلاحيّات. هذا المنحى التضخّميّ نراه لدى كلّ التنظيمات. كلّ هيئة تدّعي أنّ دورها مهمّ وأساسيّ وبدونها سوف تتوقّف البلاد وتسقط على رؤوسنا السماء. وحتّى تنجز ما لها من غايات ساميّة، يجب إيلاء الهيئة حقّ قدرها وضخّ المزيد من المال وتمكينها من المزيد من الوسائل القانونيّة والسياسيّة... هذا التمشّي التوسّعيّ رأيناه عند هيئة بن سدرين وكيف هي تكدّس الملفات حتى تبقى وتدوم وهذا ما نراه اليوم في هيئة شوقي الطبيب وكيف هي تحت راية درء الفساد تتوسّع، تكبر. تفتح في الجهات مكاتب للنظر عن كثب ولمتابعة ما يحصل من فساد...
* * *
للفت النظر وحتّى تراها السلط وتتحدّث عنها الصحف، لا تكتفي الهيئة العليا بعمليّات التدقيق ومراقبة التصرّف. هي تفعل أكثر. هي تنكبّ على الوقاية. ها هي تصدر كتابا في التصرّف: «دليل المتصرّف العموميّ لاجتناب أخطاء التصرّف» وتنظّم لقاء كبيرا تحضره إطارات الدولة حتّى يعلموا ويتبيّنوا. ما كان إصدار الكتب من مشمولات الهيئة الرقابيّة، لكنّ التسويق يدفع بالهيئات في سبل شتّى...
أسأل: كم من بشر قرأ «دليل المتصرّف العموميّ»؟ كم من عبد اطلع على تقارير الهيئة العليا للرقابة الاداريّة والماليّة؟ منذ ربع قرن والهيئة تنشر التقارير تلو التقارير فهل حقّقت الهيئة العليا الغاية وهل غدا التصرّف في الهياكل العموميّة اليوم أفضل؟ لا أعتقد وهذا التصرّف العموميّ اليوم يزداد مع السنين سوءا وتعثّرا. ثم، ماذا تصلح هذه الثنائيّة وهذه الثلاثيّة في الرقابة. كان الأولى أن تحمل كلّ وزارة أو تنظيم نفسها وتسهر على شؤونها ثم تحاسب عمّا أتت من فعل وعمّا حصّلت من نتاج. في الوزارات وفي المؤسّسات العموميّة هناك كفاءات وفيها هياكل تفقّد قارّة. كان الأولى أن تتدبّر هذه شؤونها وتصلح أمرها بنفسها ولا فائدة ترجى من تدخّل الهيئة العليا في شؤون لا تعنيها ولا تعيها وليست هي قادرة على حلّها...
(يتبع)