«تقرا ولا ما تقراش المستقبل ما فماش»... مازلت أذكر إلى اليوم رهبة هذه الصّرخة المنبعثة من حناجر التلاميذ في المعهد الثانوي الذي التحقت به في بداية السبعينات من القرن الماضي. صرخة الفزع هذه كانت تتناقض مع عالم مدرستي الابتدائية الذي تركته في إحدى قرى أرياف الوطن القبلي. مدرسة تتوسّط القرية وتضفي عليها بألوان جدرانها الزاهية وورود حديقتها الصغيرة جمالا كأنّه انتزع من زمن البؤس والفقر.
كانت المدرسة الابتدائية فضاء حياة تتردّد فيه كلمات الدّروس و أنغام الأناشيد وضحكات الأطفال فرحا بالدخول إلى «الكنتينة» لتناول وجبة الغداء الدافئة أو لحضور حصص دروس التدارك التي كان يؤمّنها المعلمون والمعلمات لكل التلاميذ مجانا.
كانت المدرسة العمومية فضاء حياة وعطاء واشتراك في تحويل الإمكانات الشحيحة إلى مشاريع مجتمعية يقوم فيها التعليم والتربية بدور الريادة.
وكان المعلمون والمعلمات بملابسهم الأنيقة ومعارفهم التي تتطور باستمرار بفضل دورات التكوين البيداغوجي عيونا حريصة على تواصل رسالة المعرفة ومعتنية بجميع التلاميذ بقطع النظر عن موقعهم الاجتماعي.
كانت المعرفة رسالة وأمانة ومسارا جمهوريّا للإدماج ومحاربة الإقصاء والتهميش..
وكانت المدرسة بالنسبة إلى الجميع، معلمين ومعلمات وإدارة وعملة وتلامذة، فضاء لعيش الإحساس الأهم والأنقى : إحساس الكرامة.
كانت المدرسة العمومية بكلّ فضائلها ومحاسنها ونقائصها ومشاكلها مسرحا عملاقا تجتمع فيه الإرادات الخيرة لبناء مشروع مجتمعي يداوي جراح واقع تنخره مظاهر العروشية والقبلية والفقر والتمييز وتعثرّ التنمية وهيمنة ثقافة الاستبداد والذكورية والفساد واحتقار معاني الدولة والمواطنة.
كانت مسرحا للخروج من عمى الانغلاق ومحاولة لتأكيد ذات الفرد المتحرّر وتأكيد سيادة المجتمع على مصيره في الوقت نفسه.
ولكن هذا السّعي إلى الجمع بين مغامرة التعليم وتحرير الفرد والمجتمع الذي طالما حلم به المصلحون والمصلحات في تاريخنا المدني سيدخل في دوامة الأزمة وراء الأزمة في العقود الأخيرة نتيجة تواصل
الاستبداد وضرب الحريات وتعطيل مشروع المواطنة وإنكار دولة القانون ونتيجة التضحية بجودة التعليم وتحويل التلامذة إلى «ضحايا» تجارب متوالية لمدرسة لا أفق لها.
هكذا تحولت المدرسة من فضاء للحلم بحياة مغايرة إلى فضاء لإنتاج الأزمة تلو الأخرى. وتحولت من فضاء يكمن في جوهر المجتمع وتطلعاته إلى بؤرة توتر دائم يجترّ أساطير زمن جميل لم يتحقق ويهدّد آمال مربين ومربيات وإدارة وتلامذة وأولياء مازال الكثير منهم يقاوم ويحلم.
واليوم يقبع الجميع في دوامة الخوف على مصير المدرسة العمومية ويهتفون بضرورة إصلاحها فهي ملاذهم الوحيد من غيلان الجهل والفقر والاندثار. اليوم يشتكي الجميع من مخاطر خوصصة التعليم وتراجع جودته ورعب البنية التحتية المدمّرة وإمكانية انحدارنا للتسليم «بالسنة البيضاء» والتسرّب المدرسي وغيرها من أمراض مدرستنا.
كل هذه المخاطر حقيقية ولا يمكن نكرانها ولكنها تخفي عنا ما هو أخطر وأشدّ على مصيرنا : لقد بدأنا نفقد المدرسة كفضاء لتحقيق كرامة الجميع.
لقد شغلتنا الصّراعات المشروعة حينا والمتوهمة حينا آخر عن أهم كفاح وهو الكفاح من أجل مدرسة الكرامة.
لقد قمنا بثورة من أجل الكرامة وتناسينا في عجلة من أمرنا أن استرداد كرامتنا يقوم على الحريات والتنمية ودولة القانون. وهي معان لا يمكن أن توجد بدون إنسان سيد على وجوده، أي بدون إنسان متعلّم وعارف.
لقد حلمنا بالكرامة وأطلقنا مسار ثورة الكرامة ثم تقاعسنا عن تحويل حلم الكرامة إلى مشاريع ثورية إصلاحية كبرى وفي مقدمتها إصلاح التعليم.
لقد خذلنا ثورة الكرامة حين أهملنا مسار إصلاح التعليم. بدأ هذا المسار يوم 23 أفريل 2015. يومها انطلقت استشارة مجتمعية موسعة حول مشاكل التعليم وآفاق إصلاحه. وتمخضت الاستشارة الكبيرة عن توجهات إصلاحية تكفلت بها خبرات من نساء ورجال تونس بحثت في أهداف التعليم وقوانينه وفي حوكمة المدرسة وجودة التعليم والتوجيه المدرسي وعلاقة المدرسة بمحيطها ووضعية نساء ورجال التعليم وغيرها من القضايا.
وأنتج هذا العمل مشروع قانون يتعلّق بالمبادئ الأساسية للتربية والتعليم ينصّ في فصله الأول على أن «التربية والتعليم حقّ أساسي من حقوق الإنسان وهو أولويّة وطنيّة مطلقة يضمن بناء الذات ويسهم في التنمية الإنسانية الشاملة والمستدامة ويؤسس للنظام الديمقراطي».
ولكن هذا المسار الذي هو شأن كلّ المسارات الإصلاحية يحتمل الصواب والخطأ، تعّطل مرّات عديدة وعاش تقلبات هي مرآة لتقلبات المرحلة الانتقالية الصعبة والمعقدة التي نعيشها.
هل فشل مسار الإصلاح؟ كلاّ لم يفشل ! بل نحن في مرحلة عدم وعي بأن كل مشاكل مدرستنا العمومية يجب أن نعيد صياغتها في مشروع جامع هو مشروع إصلاح التعليم.
إنها المسؤولية المشتركة تنادينا. لنستأنف بسرعة هذا الإصلاح ولنعتبره مسارا تاريخيا نضع فيه أحلامنا وآمالنا ومساحة نعالج فيها مشاكلنا واختلافاتنا.
لنعد إلى «مشروع قانون يتعلّق بالمبادئ الأساسية للتربية والتعليم» يقبع في أدراج صناع القرار، ولنخرجه من غياهب النسيان ولنفتح نقاشا وطنيا حوله.
انها دعوة للخروج من منطق الاتهام وشيطنة الكل للكل.
إنها دعوة إلى كل من يحلمون بمدرسة جودة التعليم والمواطنة للمشاركة في استعادة مسار الإصلاح التربوي قبل فوات الأوان.
إنها دعوة لكل شركاء مسار الإصلاح التربوي وإلى الرئاسات الثلاث والأحزاب السياسية والتلامذة والأولياء والقطاع العام والخاص ووسائل الأعلام ومنظمات المجتمع المدني والمواطنات والمواطنين : ليكن التعليم بوصلتنا نحو مجتمع الكرامة.