سؤال وجواب: في الأجور وفي سبل تحديدها

جميع الاضطرابات التي نرى في تونس وفي خارجها سببها توزيع الثروة. كلّ فرد، كلّ جماعة تريد نصيبها من الثروة. الكلّ

يريد أن يكون له النصيب الأوفر. الكثير من الاضرابات التي تهزّ المؤسّسات، الخاصّة منها والعموميّة، سببها الأجور. في الأيّام الماضيّة، إضرابات الاساتذة وما فعلوه من مقاطعة للامتحانات ومن اعتصام وتظاهر سببه الأجور. لم أر إضرابا جاء دفاعا عن المصلحة العامّة. لم يضرب الأساتذة ولا المعلّمون مرّة من أجل الرفع من جودة التعليم. لم أسمع مرّة أن انتفض العمّال أو الأطبّاء أو القضاة... وأضربوا من أجل الزيادة في الإنتاج... كلّ نزاع، كلّ صراع مردّه الأجور. هذا التمشّي، نلقاه في كلّ الأصقاع. هذه الظاهرة نلقاها في كلّ زمان...
كيف تحدّد الأجور وهل من سبيل علميّ يضبط نظم الأجور فننتهي مع ما كان من اختلاف بين الأطراف حول الأجور؟ هذا هو الإشكال الكبير ومن يقدر على حلّ الاشكال له منّي ألف مليار... لا يوجد في الأرض منوال تلتقي حوله الأطراف وإليه تحتكم. قضيّة الأجور قضيّة معقّدة. هي معضلة اجتماعيّة لا حلّ لها ولا مخرج. في كلّ المجتمعات، شرقا وغربا، كان الأجر وسيظلّ محلّ تجاذب واضطرابات تتجدّد.
* * *
كلّ منوال للأجور هو بناء اجتماعيّ. هو جدول جاء نتيجة علاقات خصوصيّة. بنيّ على ضوء صلات معينّة. في ظلّ موازين للقوى معيّنة. كذلك جاءت جداول الأجور نظما ظرفيّة. محدودة في الزمن. ما أن يتغيّر الظرف وميزان القوى حتى يصبح المنوال القائم محلّ نقاش وجدل. تعود الأطراف الى طاولة التفاوض. يقع اعادة النظر وأحيانا يكون التعديل. إن تجمّعت النقابات واشتدّ ضغطها، تنال النقابات ما ارتأت. يعاد النظر في ما كان من نحو وترتفع الأجور. أمّا إذا امتنع الطرف المقابل وتمسّك بما هو موجود عندها يكون المأزق ولا تتغيّر الأجور. الإبقاء على ما كان من سلّم أجوريّ أو الزيادة فيه أو التخفيض منه، هي جميعا سبل ممكنة تتحدّد بما كان في التنظيم، في القطاع، في المجتمع من ميزان للقوى. حسب الميزان، ينتصر هذا الطرف مرّة وينتصر الآخر مرّة...
لأنّ الأجور هي أساسا معادلة اجتماعيّة، يخطئ من يعتقد أنّه من الممكن ضبطها وفقا لتراتيب محدّدة. على ضوء عناصر بيّنة. كلّ العناصر المعتمدة هي نسبيّة. هي ظرفيّة. محلّ جدل دائم. نفس العناصر هي اليوم مهمّة، شرعيّة. نفس العناصر تلقاها غدا غير ذات دلالة. لا تصلح.
عند الكثير من المتصرّفين، يحدّد الأجر حسب عنصر أساسيّ ألا وهو ما كان للمنتوج من قبول في السوق. في نظر المتصرّفين، لا شيء آخر يهمّ. بقدر البيع وما كان من ربح تزدهر المؤسّسة وترتفع مع الربح الأجور. لكنّ السوق غير مضمون في ظلّ منافسة لا تهدأ. ازدهار البيع قد يعقبه كساد وينتهي الربح ويتقلّص الفائض. هل يمكن عندها تخفيض الأجور؟ يجب عندها التخفيض في الأجور.
أمّا بالنسبة للوظيفة العموميّة فالشأن آخر. لا وجود في القطاع العامّ تنافسيّة تدفع. لا وجود لربح محفّز أو لخسارة مربكة. في القطاع العمومي، هناك استقرار تامّ. هناك تمكّن. لا مكان فيها للربح أو الخسارة.
في التعليم، في الصحّة، في الادارات...، لا «سوق» لمن تنادي ولا تنافسيّة ترى. في القطاع العموميّ، يرفع الأجر بحسب ما جاء في القوانين، بحسب التضخّم أو بحسب ما كان للقطاع من قوّة وتأثير... قطاع التعليم مثلا هو قطاع له قوّة ضاربة باعتبار ما فيه من كثرة العاملين. لنقابة التعليم قوّة نافذة وتراها، في كلّ مفاوضات، تغنم وتستأثر... في ما مضى، كان قطاع النقل قطاعا قويّا. تخشاه السلط. بفضل النقل الخاصّ انتهت في السوق قوّته...
***
علاوة على الانتاجيّة وهذه عسيرة الضبط والتحديد، في القطاع العموميّ وحتّى في القطاع الخاص، أحد العناصر التي تدخل في تحديد الأجور هي الأقدميّة. لكن، ما هي خصلة الأقدميّة وهل لها حقّا أثر على الانتاج وجودته؟ هل من كبر سنّه وقضّى السنين في الشغل أو في الوظيف هو أكثر إنتاجا من ذاك الذي انتدب في زمن قريب؟ لا أبدا. لا علاقة بين سنين الأقدميّة والإنتاجيّة. لا علاقة بين العمر والإضافة. لا ذكاء خصوصيّ لمن كبر سنّه. هذا خطأ مشاع في تونس في حين أنّ العكس أحيانا هو الأصوب. في التعليم مثلا، المتخرّج الجديد هو غالبا أفضل قدرات من المتخرّج القديم والطبيب الحديث أكثر تمكّنا من ذاك الذي أكله الزمن. في الاعلاميّة، تنتهي قدرات المتخرّجين بعد أقلّ من خمس سنين وما كانوا درسوه انتهى في السوق أمره...
بعض المتابعين، يقولون إنّ الشهائد هي العنصر الأهمّ في التفريق بين الأجور ويجب اعتمادها لضبط سلّم أجوريّ يميّز بين العاملين. في تونس، في الكثير من الشركات والدواوين، يلقى الحاملون للشهائد أفضليّة في المراتب وفي الرواتب. في نفس الشغل، ينال صاحب الشهادة الأرفع أكثر أجرا من صاحبه رغم كونهما في نفس الوظيف. ينتجان نفس المنتوج... مؤخّرا، في تونس الجوّيّة، بعض حمّاليّ البضائع طالبوا بمزيد الأجر لأنّ لهم شهائد. تحت ضغط النقابة، اضطرت الشركة الى منح أصحاب الشهائد رتبا أعلى وأجورا أرفع رغم بقائهم في نفس الوظيف: حمّالة بضائع.
* * *
في بلاغ أصدرته مؤخّرا نقابة «إجابة» وهي نقابة مستقلّة لأساتذة التعليم العالي والباحثين، جاء أنّها سوف تنظّم وقفة احتجاجيّة للمطالبة بتطبيق ما أسمته: «العدالة في الوظيفة العموميّة عبر احترام سلّم الشهائد» (هكذا). لا أفهم ما تعنيه إجابة بالعدالة في الوظيفة العموميّة باحترام سلّم الشهائد. هل تريد النقابة أن يكون أجر الموظّفين بحسب ما كان لهم من سنوات دراسة في الجامعة؟ هل تعني أن من قضّى في دراسة الهندسة نفس السنين له نفس أجر من درس علم الفقه والآخر الذي درس العربيّة أو الطبّ أو علوم الذرّة؟ هل هذا ممكن؟ هل عند اجابة تستوي في الدنيا المعارف والعلوم؟ هل تعتقد النقابة أن لا فرق في السوق بين من درس الاعلاميّة ومن قضّى سنواته في حفظ العروض أو في التدرّب على غسل الموتى؟ في ما أرى، ما تطلبه النقابة غير مقبول ولا هو واقعيّ. في ما أعتقد، لا تحسب إجابة للسوق حسابا وأخالها لا تتبيّن ما في العلوم من اختلاف في الجهد وما لها من أثر في الانتاج. العلم صناعة. هو سلعة كغيره من السلع. هي بضاعة ولكلّ بضاعة عرض وطلب. لكلّ منتوج جامعيّ خصائصه وله سوق. في السوق تتحدّ الأسعار ويكون القبول أو العزوف. اليوم مثلا هناك تهافت على خرّيجي الاعلاميّة وعزوف على خرّيجي التصرّف أو العربيّة وأصول الدين... فكيف إقامة المساواة بين سلع تختلف؟
في ما أرى، يحتجّ بعض الأساتذة الجامعيين ويقولون انّ أجورهم اليوم أدنى من أجور القضاة رغم ما لهم من شهائد أعلى. صحيح، هناك اختلاف في ما كان من سنوات الدرس بين الفصيلين ولكن هناك اختلاف كبير بين ما يفعله هذا ويفعله الآخر. لكلّ واحد مهامّ وأعباء خصوصيّة. لا مجال للمقارنة بين الأستاذ والقاضي. لا يمكن المقاربة بين الشؤون المتباينة. مقارنة الأستاذ بالقاضي أو بالسفير أو بالطبيب لا تستقيم إذ لكلّ شأن ومهامّ وانتاج ولا سبيل الى التقريب بين ما هو أصلا مختلف.
* * *
كما كنت كتبت في أوّل المقال، كلّ انسان يسعى الى كسب المزيد من الثروة، الى الزيادة في ما له من منح وأجور. لا أحد يرى ما كان في المؤسّسة من عجز، من تعثّر. لا أحد يهمّه ما تشتكيه خزينة الدولة من وهن ولا ما كان من قروض. هذا ليس شأنه. شأنه هو كيف الضغط على الأعراف، على الدولة حتّى تزداد رواتبه وإن أدّى سعيه الى المحرقة، الى الافلاس المحدّق. الكلّ يريد المزيد. الكلّ يريد الآن وليس غدا. لا يهمّه غيره من الناس. من كان في بطالة، بلا أجر. من كان في فقر، في خصاصة. المهمّ هو الأنا وبعد الأنا لا شيء في الوجود. كذلك، ترى كلّ فرد يتهافت، يصرخ والنقابات من حوله في حماسة، تضرب، تعتصم، تقطع الطريق، تحرق الأرض وتقول إنّ قضيّتها «شرعيّة»، وإنّها ومنظوريها محلّ غبن طال وهذا تعسّف للدولة لا ينتهي... إلى غير ذلك من القول البليد...
من كان من العباد أجره ضعيف والأخر الذي كان أجره محترما والآخر الذي في النعيم يرغد، الكلّ يريد الزيادة في الأجور، لاغتنام المزيد. الكلّ يحسب، يناور، يأتي ما استطاع من الحيلة، من الخبث... أحسن مثال أقدّمه، ما نراه هذه الأيّام مع غصن الرئيس المدير العام لشركة رينو- نيسان وكيف هو رغم أجر شهريّ بأكثر من 4 مليار من الدنانير التونسيّة دون اعتبار ما له من امتيازات لا تحصى، ها هو يتلاعب، يختلس، يريد المزيد...

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115