حادث وحديث: في نظريّة الزجاج المهشّم

في كتاباتي، أنا كثير النقد. في جلّ ما أكتب، أراني دوما منتقدا، مندّدا، «أهوي على الجذوع بفأسي».

أنا أعتبر أنّ النقد ضرورة لإصلاح ما فسد وهو سلاحي لتغيير ما نحيا من سوء ورداءة... أعتقد أنّي أبالغ في النقد. كلّ الكتابات التي تصبّ في اتّجاه واحد وسمتها الهدم، لا تقدر على تحقيق الغاية وربّما لن تغيّر شيئا. أحيانا، بمثل هذا الغلوّ، قد يحصل العكس. عوضا عن الفسخ، ترانا نرسّخ. نعمّق. فيصبح «السوء» فينا علامة عاديّة، مميّزة...
الحياة جميلة، حلوة مهما اشتدّت. حتّى نراها بهيّة، خضرة، يجب أولا أن تمتلئ قلوبنا عزما وحبّا. أن نعشق الحياة. أن نتفاءل خيرا. أن نؤمن أنّ الغد سيكون أفضل. يجب أن نثق في ما كان من قدرات ونقطع الاحباط والعراقيل الأخرى. بالسعي، سوف نرتقي. بالكدّ، سوف نغيّر ما فسد فينا وفي الدنيا. لا ينفع النظر الى الخلف ولا تحدّثني في ما انتشر من ظلم وما كان من رذائل أخرى. هذه أعلمها وتذكيرها مرّة ومرّة فيه اثبات واحباط للعزم... لإصلاح الدنيا يجب أوّلا أن نحبّ الدنيا. أن نعضّ بالأسنان عليها. لمحاربة ما انتشر فيها من فساد، يجب أن نذكّر بما انتشر من نور وصلاح وفضائل أخرى...

***
«نظريّة الزجاج المهشّم» هي نظريّة متعارفة لدى أهل الاختصاص. في سنة 1982، كتب أستاذان أمريكيّان بحثا، قالا فيه ما معناه أنّ العنف بأشكاله (والارهاب) وما قد يحصل من انحراف ليس مأتاه العوامل الاجتماعيّة مثل الفقر أو البطالة أو الوضع المعيشيّ العسير وغيرها من العوامل الأخرى، بل أصلها في ما نرى من جزئيّات يوميّة مختلّة. هذه الجزئيّات التي تتكرّر هي التي سوف تدفع بالعباد الى الانحراف، الى العنف. هي التي تحوّل حيّا آمنا الى حيّ مخرّب، بلدا مطمئنّا الى بلد فيه اجرام وعنف... فالانحرافات اليوميّة تلك التي تتكرّر ولا أحد يصدّها، تزداد مع الأيّام رسوخا وعمقا. يقول الكاتبان «انّ السيارة المهشّمة زجاجها والرابضة في ركن تدفع بالناس الى تكسيرها أكثر» فكأنّ السيّارة تدعوهم الى تهشيم ما تبقّى.

كذلك الحال في العديد من مظاهر الحياة الدنيا. حرق بعضهم للضوء الأحمر يشجّع الناس على حرق الأضواء. القاء بعضهم القذارة في الشارع، يدفع بالناس الى المزيد. الفوضى تدعو الى الفوضى. المظاهرات تحثّ على المظاهرات. كذلك، السرقة والتكاسل والكذب وغيرها من السلوكيّات الأخرى. فالقضيّة ليست في ما كان من ظروف اجتماعيّة بل تكمن في غضّ النظر عن هذه الانخرامات الصغيرة، عن هذه المخالفات اليوميّة التي سوف تتفاقم مع الأيّام وتزداد اتّساعا وعنفا... ان تطبيق القانون بلا شفقة وبلا رحمة هو السبيل لتلافي ما نحن نحيا اليوم من تجاوز وانحراف...

***
في تونس، في المدارس، هذا تغيّب يتكرّر ولا أحد ينبّه فيزداد مع الأيّام التغيّب. في الشارع، هناك عشرات السيارات المهشّمة ولا أحد يرفعها. هذه حفر في الطريق كثرت واتّسعت ولا أحد يسدّها. هذه قذارات في كلّ مكان ولا أحد ينهر.... تعوّدنا الرداءة. تعمّقت الرداءة. دون ردع، دون زجر، سوف يزداد الحال سوءا وتعفّنا...
ما حصل مؤخّرا في العاصمة من ارهاب فسّره الكثير بما تحياه المرأة من بطالة وفقر، من عنوسة وكبت... السبب الدافع للقتل هو ما نحياه، منذ الثورة، من انحرافات مختلفة. نراها كلّ يوم ولا أحد لها بالمرصاد يردع. ما يحصل في البلاد من اهمالات يوميّة، من انحرافات صغيرة أحيانا، من رداءات مختلفة... هي التي حفّزت الناس على المزيد. هي التي شجّعت فعمّت. يجب ردع المخالفين دون رحمة. «التسامح الصفر» ذاك هو السبيل حتّى ننتهي من هذه الخروقات المفسدة.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115