حادث وحديث: في ما نحن نحيا من لامبلاة ومن رداءة

في السنوات الثمانين، اشتغلت وبعض المهندسين في بعث معمل للأدوات اليدويّة بالجريصة. لا أدري ان كان المصنع اليوم موجودا

أم هو أفلس وأكله سوء التصرّف... كانت الجريصة قرية فلاحيّة فقيرة في الشمال الغربيّ. لتنميّة الجهة، ضخّت السلط وبعض دول الخليج مالا كثيرا. اشترينا المعدّات من ألمانيا الشرقيّة. لم تكن ألمانيا الشرقيّة دولة متقدّمة ولا هي صاحبة صناعة متطورة. اشترينا منها معدّات قادرة على تشغيل اليد العاملة. كان يومها الاستثمار في مناطق الظلّ ضرورة وكانت الغاية توفير الشغل حتّى يأكل البشر...

بعد سنة أو أكثر، تمّ التجهيز وانطلق في الإنتاج المصنع. كنّا والألمان نتابع. نعدّل الآلات. نحكم التنظيم. نكوّن العاملين... بعض الوظائف يلزمها حذق ويقظة. ما كانت هذه الخصال من سمة العاملين في البلد. قضينا أشهرا ونحن نتهيأ. نرتّب، نشرح للعاملين كيف الفعل وكيف الحذر... في يوم، قلت لأحد المهندسين الألمان «لو أصيب عامل يوما بإرهاق أو شدته غفوة سوف تحصل كارثة وسوف نرى الأيدي تقطع». أجابني الألماني وكلّه ثقة وطمأنينة «لو أصيب عامل بغفوة خلال عمله أو هو تلهّى ولم ينتبه فهو المذنب وهو المسؤول على قطع يده... في ألمانيا، يعاقب وأحيانا يسجن من أغفل وتلهى بغير عمله. في بعض الحالات، يعدم، كما حصل لمّا فاض سدّ ولم يتفطّن الناظر»...

اليد العاملة التونسيّة هي، غالبا، قصيرة اليد. هشّة التكوين. التكوين عندنا ضعيف. النظام التعليميّ العموميّ انتهى أمره. خرّيجوّ الجامعات ومدارس التكوين وكلّيّات الهندسة...، هم غالبا، ناقصوّ عقل وقدرة... مثل هذا النقص في التكوين ليس عيبا كبيرا ومن اليسير تداركه. المشكلة الأعقد في البلد هي ما يحمله التونسيون من لامبالاة واستهانة. هم في طيش دائم. هم غير جدّيين أبدا. لا يتحمّلون المسؤوليّة. في نظرهم كلّ شيء مباح وكلّ شيء ممكن. الحياة عندهم استهزاء متّصل. لا ممنوعات فيها ولا حدود ولا فواصل. سمتهم التهوّر وأحيانا الصعلكة. لا يهمّهم شيء وكلّ شيء قضاء وقدر... انظر في مختلف العاملين، مهما اختلفت أصنافهم. أنظر في ما يأتونه من لامبالاة مفزعة. من عبث بلا حدود، من رداءة... صحيح، هناك تونسيون لهم حذق ودراية. لهم مهارة وكفاءة. هؤلاء، في ما أرى، قلّة قليلة. هؤلاء، جلّهم، هجّ البلاد وترك البلاد تغرق...

ما يجري في المدارس والجامعات، ما يحصل في المستشفيات وفي الادارات وفي الوزارات... من خزعبلات ومجون وألاعيب هو العجب. ما يحصل في تونس الجوّيّة وفي الديوانة من ازدراء ومن سرقة ومن عبث لم تره عين. ما رأيناه في حادث الباخرة التونسيّة، ما عرفناه في القطارات وما يحصل كلّ أسبوعين أو ثلاثة في فسفاط قفصة وفي غيرها من المناطق، هو العجب العجاب. هو صورة لما نحن فيه من قبح ومن منكر...

أحيانا، أنا أفرح بما حصل من ثورة في البلاد، رغم ما أفرزته الثورة من فوضى، من بؤس، من تعاسة. أحيانا، أرى في الثورة نفعا كبيرا... ان كان لهذه الثورة من نفع ومن خصلة هي أنّها أخبرتنا عن ذواتنا. أعلمتنا بما نحن فيه من سوء ومن جهالة. جاءت الثورة مرآة عاكسة لما نحمل. كشفت ماهيّة شعبنا، ما كان فينا من قبليّة، من انتهازيّة، من تخلّف... مع حكم بن علي، كان الستار سميكا حتّى نرى. مع بن عليّ، ما كنت أعرف ما نحن فيه من حقيقة ومن واقع. بفضل الثورة، نحن نتعرى. تكشف عوراتنا. نتبيّن ما استقرّ فينا من سقط ومن نذالة...

هذا الكشف للذات فيه منافع. اليوم الكلّ يعلم ما استقرّ واختفى في أنفسنا من سقط ومن عيب، ما نحياه من ضياع ومن صعلكة... هل تكون الثورة المنطلق للإصلاح؟ هل تكون الثورة الشرارة للعود إلى الذات، للنظر في الأنفس حتّى نرى، حتّى نتبيّن؟

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115